تحرر الانسان من غسيل المناديل القماشية المستخدمة في كافة مرافق حياته اليومية منذ ستينيات القرن الماضي عندما انتشراستخدام المناديل الورقية على نطاق واسع في الكثير من بلدان العالم ومنها لبنان.
على الرغم من ان بداياتها كانت في منتصف الاربعينيات من القرن العشرين في الولايات المتحدة وعلى نطاق ضيق، فان استخدامها في اوروبا كان في ستينيات هذا القرن بعد نهضتها من الحرب العالمية الثانية.
لم اكن اعرف ان بدايات استخدام هذه المناديل في الستينيات لانني اعتدت على استخدامها طوال حياتي، اي انها واكبت مسيرة حياتي ايضا ولا استطيع ان اتخيل حياتي بدونها اذ انها تنتشر في كل غرفة في منزلي وفي مكتبي وفي اي مكان اذهب اليه مع الاحتفاظ برزمة منها في حقيبة يدي.
فتلك التي يطلق عليها اسم محرمة «كلينكس» في لبنان او «منديل فاين» في دول الخليج، وهي تسميات مرتبطة باسم الشركات الاولى المنتجة لهذه المناديل في بداية الستينيات، صارت من الاحتياجات الاساسية في حياة الانسان العصري وحتى غير العصري في القرى النائية. فهي ساهمت في التخفيض من انتشار الاوبئة خصوصاً الرشح والانفلونزا التي كانت في بعض الفترات التاريخية تتسبب بالوفاة للاشخاص عبر العدوى من العطس والقحة.
كانت بلداننا العربية في تلك الفترة تستورد تلك السلعة المهمة من الدول الصناعية الكبرى التي طورت هذه التكنولوجيات، اما اليوم ومنذ التسعينيات فتكاثرت مصانع انتاج وتعليب المناديل الورقية في كامل البلدان العربية نظراً للتكاليف غير الكبيرة لانتاج مثل تلك المعامل (ما بين 40 و100 الف دولار). ولكن الاسئلة التي كنت اسألها مع كثيرين دائماَ: من أين تأتي هذه المناديل السحرية التي غيّرت حياتنا منذ خمسين عاماً؟ وما هي كلفتها الحقيقية في دورة حياتها الكاملة من لحظة استخراج موادها الأولية (من الأشجار والغابات) الى كيفية تصنيعها وتغليفها (مع آثار التصنيع وانعكاساته) الى استخدامها ومن ثم تحولها الى نفايات وكيفية معالجتها؟
صناعة اللب والورق
ترتكز صناعة المناديل الورقية على صناعة الورق المدانة بيئياَ وعلى نطاق عالمي بسبب استنزافها للغابات المدارية التي تعتبر رئة الارض. هذه الغابات التي تختزن غاز ثاني اكسيد الكربون المنبعث من الوقود الاحفوري وترده لنا اوكسجينا خالصا ينقي هواءنا الذي نستنشقه والذي لا يمكن استيراده من الكواكب الاخرى بعد استنزافه ونفاده.
تتقاطع صناعة المناديل الورقية مع صناعة الورق في المراحل الاولى من عمليات انتاجها. فهما تتشاركان في المواد الأولية أي في مادة لب الخشب المستخرجة من أشجار الغابات المدارية عموما، اي من الأمازون وكندا تحديدا بالنسبة للقارة الاميركية ومن الغابات الاندونيسية والصينية بالنسبة للقارة الاسيوية ومن الغابات في اوروبا الشرقية وبلدان اسكندينافيا بالنسبة لاوروبا.
ثم تقوم مطاحن لب الخشب بعجن اللب وفصل السليلوز(Cellulose) عن الليجنين (Lignin) وهي المادة اللاصقة التي تعمل على توثيق اللحمة بين ألياف الخشب من اجل تماسكها ومتانتها. هذا الفصل يتم باضافة مواد كيميائية تساعد على التخلص من الليجنين بسرعة ليتم بعد ذلك الحصول على عجينة الورق التي تستخدم على السواء في صناعة الورق وصناعة المناديل الورقية.
لا يقتصر الأمر فقط على إنتاج عجينة لب الورق لصناعة كلا المنتجين الورقيين وانما تخضع هذه العجينة الى عمليات التبييض باستخدام المواد الكيميائية المبيضة كالكلور (Cl) لتتحول تلك العجينة الى سائل غير شفاف يصار الى رشه على اسطوانات ذات حرارة مرتفعة لتجفيفها والحصول على رقائق الورق الذي يلف على اسطوانات كرتونية ليتم في ما بعد قصها وتعليبها تمهيداً لتسويقها تحت انواع مختلفة من الاستخدامات.
اما بالنسبة للعجينة المخصصة لصناعة المناديل الورقية فيتم اضافة مواد مثل (NBSK & CTMP) لاضفاء الليونة والمتانة والطراوة على المناديل الورقية مع الاحتفاظ بالقدرة على الامتصاص. كما يتم اضافة مادة (Hypochlorite) لاضفاء النصاعة في البياض على المنتج النهائي.
الأنواع ووجهات الاستخدام
تتعدد استخدامات المناديل الورقية من محارم للوجه واليدين الى لفائف المطبخ والحمام الى الفوط والحفاظات الصحية.
تتفاوت جودة هذه المنتجات الورقية من حيث كونها من الانسجة الجديدة او من الخرق البالية المعاد تدويرها. هذا بالاضافة الى المواد المضافة التي تميز منتجاَ عن غيره من حيث الطراوة ونصاعة البياض وهو ما يفسر التفاوت في الاسعار بين منتج وآخر على رفوف السوبرماركت، والتي تخضع ايضا لمعايير ايزو (ISO) للمطابقة لمعايير البيئة الثلاث.
الجوانب الاقتصادية
ينتج العالم حوالي 21 مليون طن من المناديل الورقية. تنتج الولايات المتحدة الأميركية من هذه الكمية 12 مليون طن، كما تنتج اوروبا 6 ملايين طن… وبقية العالم ينتج فقط 3 ملايين طن من المناديل الورقية. ويقارب حجم سوق المناديل الورقية في اوروبا مبلغ 10 مليارات دولار سنوياً وهو يشكل 23 % من السوق العالمية بمعدل زيادة يساوي 3% سنوياً.
أما بالنسبة للبلدان العربية فبعض المصانع يستورد عجينة الورق ويصنعها في خطوط انتاج متكاملة نسبياَ مثل السعودية، والبعض الآخر يستورد لفائف المناديل الضخمة ويقطعها ويعلبها ويوزعها. وهنا يتفاوت الضرر البيئي على البيئة المحلية، اذ ان استيراد اللفائف يحافظ على البيئة المحلية العربية في حين ان خطوط الانتاج المتكاملة لانتاج المناديل الورقية يؤدي الى تلويث البيئة المحلية من حيث المواد الكيميائية المتسربة الى البيئة كالكلور والفوران ويؤدي الى استهلاك كميات كبيرة من المياه ليست متوفرة اصلاً في البلدان العربية.
تعتبر هذه الصناعة عبئا على البيئة العربية التي تعاني أصلاً من تدهور كبير ومتفاقم دائما. وهنا يتبادر الى الذهن الكارثة البيئية التي يتسبب بها معمل الكرتون المقام على حافة نهر الليطاني في البقاع اللبناني على مقربة من بحيرة القرعون التي تحولت بفعل الملوثات الناتجة عن معمل الكرتون وعشبة السينوباكتر إلى بحيرة ميتة، ومشاكل احد اكبر المعامل على الشاطئ.
الآثار البيئية لهذه الصناعة
تتطلب صناعة الورق الكثير من الغابات والأشجار، فكل 10 الى17 شجرة تنتج طنا واحدا من الورق. وعند استخدام الألياف الجديدة من لب الخشب (أي من عجينة الورق) في المواد الاولية لهذه الصناعة، يجب مراعاة نظم التراخيص للغابات اي ممارسات الاستدامة ومراعاة عمر الشجر المقطوع وسياسة اعادة التشجير بالاضافة الى استخدام الطاقات المتجددة كالكتلة الحيوية مثلاً (Biomass) للحد من انبعاثات ثاني اكسيد الكربون الملوث للبيئة. كما ان مقتضيات الجودة هو الحرص على انتاج مناديل جيدة ومتينة مع قابلية الذوبان في البيئة.
أن عملية اعداد عجينة الورق من لب الخشب وفصل الليجنين عن السليلوز يتطلب كمية كبيرة من المياه بالإضافة الى عملية التبييض التي يستخدم فيها المواد الكيميائية المبيضة واهمها الكلور بالاضافة الى ما ينبعث منها من ملوثات الى الجو (الفورمالديهايد والميتانول والاسيتالديهايد والايتيل كيتون) (formaldehyde, methanol, acetaldehyde, and methyl ethyl ketone) .
واما بالنسبة لكميات المياه المهدورة في صناعة الورق فيمكن اعطاء مثال عن صناعة انتاج لب الورق في كندا حيث تستخدم مطاحن لب الورق هناك ما بين 25 الف و 300 الف متر مكعب من الماء يومياَ ويتسرب الى البيئة 104 آلاف متر مكعب من المياه العادمة يومياً التي تحتوي على الكلور والمواد الكيميائية الاخرى المستخدمة في عملية التبييض.
تحاول مصانع المناديل التخفيف من الآثار السلبية على البيئة لاستخدام لب الورق في صناعة المناديل الورقية وذلك باستخدام المواد المبيضة الخالية من الكلور (Elemental Chlorine Bleaching) حيث يحاولون التأكيد في احصاءاتهم بأن نسبة 1% فقط من الانتاج الكلي للخشب على الصعيد التجاري في العالم يذهب الى المناديل الورقية.
بالاضافة الى ان هذه الصناعة لا تحتاج الى المزيد من الطاقة الاستيعابية في المطامر البلدية على الرغم من غزارة استخدام المناديل الورقية في حياتنا اليومية في حضارتنا الحديثة اذ انها حسب احصاءاتهم تشكل 2% من النفايات المنزلية وما يعادل 0.5 % من النفايات الصلبة فقط (يمكن ان يكون هذه المعدلات في اوروبا ولكن لا توجد احصاءات مماثلة في البلدان العربية).
استخدام الألياف المعاد تدويرها
على الرغم من استخدام المواد المعاد تدويرها مثل الخرق البالية ومخلفات الأخشاب من مصانع النجارة، فإن هذه الصناعة التحويلية ليست براء من تلويث البيئة على الرغم من اعادة التدوير، اذ ان المواد الاولية المدورة تحتاج ايضا الى المواد الكيميائية لتبييضها وتحتاج الى كميات من المياه ولكن أقل من تلك المستخدمة في انتاج لب الورق الى جانب الغازات الخطرة المنبعثة في الهواء والتي اشرنا اليها سابقا عند الحديث عن عملية التبييض.
وفي احد التقارير التي اصدرتها الكونفدرالية الاوروبية للصناعة الورقية اشارة الى ان حوالي 60 بالمئة من صناعة اللب والورق ومطاحنها تلبي المعايير والمواصفات الدولية البيئية. وهذا يمثل حوالي نصف عدد الصناعات، فماذا عن النصف الآخر الملوث؟
لنتأكد من المواصفات والمقاييس
اصدرت منظمة المواصفات والمقاييس الدولية (ايزو) ثلاثة انواع من المواصفات بخصوص جودة المناديل الورقية تلصق على العبوات لمساعدة المستهلك في الاختيار وهي:
ISO 14024 يرتكز على العلامات البيئية بحسب معايير تضعها اطراف اخرى لا علاقة للشركة المصنعة بها.
ISO 14021 يرتكز على العلامات البيئية بحسب معايير يضعها المصنع لنفسه وخصوصا بالنسبة للمواد المعاد تدويرها بنسبة 100%
ISO 14025 يرتكز على العلامات البيئية بحسب معايير دورة حياة المنتج والتي من ضمنها التصريح البيئي للمنتج (EPD).
ويوسم الاتحاد الاوروبي منذ عام 1989 علامات مطابقة للمعايير البيئية للمنتج مثل: Blue Angle, Nordic Swan and EU Eco-Flower
في ترشيد الاستخدام
ـ كيف يمكن الحد من الاستخدام المكثف والجائر للمناديل الورقية في غير محله؟
ـ على الرغم من حاجتنا الماسة والحيوية اليها يمكن الترشيد في استخدامها ضمن حملات التوعية كما هي الحال بالنسبة لاستخدام الورق والاقتصاد في استخدامه وفرزه من المنشأ واعادة تدويره.
ـ كما يمكن اقتراح عدم استخدام المواد المبيضة في العجينة المدورة محليا نظرأً لان المناديل السمراء تؤدي الغرض تماماً مثل المناديل ناصعة البياض التي يمكن تخصيصها للوجه مثلاً واستخدام السمراء لليدين والاستخدامات الاخرى.
ـ لماذا لا نضع على علب المحارم عبارة: «لا تبالغ في استخدام المناديل الورقية، حافظ على الشجر والبيئة»، مثلما نضع عادةً عبارة: «لا تطبع على الورق حافظ على الشجر والبيئة».
السفير