في أحدث حلقة من سلسلة مقالاتها عن الظواهر البيئية والتطورات التقنية التي قد تؤدي إلى حدوث تغير عميق في أوضاع كوكبنا، تستكشف غايا فينس الأسباب الكامنة وراء ارتفاع منسوب مياه المحيطات، والعواقب التي قد تنجم عن ذلك، وتستعرض الجهود المبذولة للتكيف مع عالم ربما ستتبدل ملامحه في قادم الأيام على نحو كبير.
تخيل ماذا سيحدث إذا ما صار شاطئ البحر أقرب إليك مما هو عليه الآن. لا نتحدث هنا عن زحف محدود للشاطئ إلى الداخل وإنما عن وصوله – على نحو مزعج – إلى عتبات المنازل التي نقطن فيها، بل وربما أكثر.
فإذا كنت واحدا من عُشر سكان العالم ممن يقطنون المناطق الساحلية المنخفضة؛ فإن ثمة إمكانية لأن يصبح مشهد المحيط ومياهه مألوفا لناظريك أكثر من اللازم خلال العقود المقبلة.
فعلى مدى الأعوام الـ 150 الماضية، تراكم ما خلّفه النشاط البشري من غازات مُسببة للاحتباس الحراري، أو ما يُعرف بـ “غازات الدفيئة” في الغلاف الجوي، وهي غازات زادت من درجة حرارة الأرض، مما دفعنا جميعا إلى دخول حقبة مجهولة الملامح يسميها العلماء عصر “الأنثروبوسين”، أو (عصر الإنسان).
فخلال العقود القليلة الماضية، تراجعت مناسيب كل – أو غالبية – الأنهار الجليدية التي تجري في الجبال الواقعة بالمناطق المدارية على وجه الأرض، أو ربما ذابت تماما؛ بما في ذلك أنهار جبال الأنديز بأمريكا الجنوبية، وجبال الهيمالايا في القارة الآسيوية، وجبال روينزوري بالقارة الأفريقية.
وتأخذ المياه، التي يخلّفها ذوبان هذه الأنهار، طريقها لتصب في نهاية المطاف في المحيطات. ويبلغ الارتفاع في منسوب هذه المحيطات على مستوى العالم 3.5 ميلليمتر سنويا في المتوسط، وهو ما يشكل تقريبا ضعف المعدل الذي كان سائدا خلال القرن العشرين.
وتتوقع دراسة نشرها الشهر الماضي علماء يعملون في معهد بوتسدام للدراسات المتعلقة بالمناخ أن يرتفع منسوب مياه البحر بواقع 2.3 متر تقريبا مع كل درجة حرارة سليزية تُضاف إلى متوسط درجات الحرارة على الأرض.
وخلال العقد الماضي، كان القدر الأكبر من ارتفاع منسوب مياه البحار والمحيطات يُعزى إلى ما يُعرف بـ”التمدد الحراري”؛ فعند ارتفاع درجات الحرارة، تشغل المياه حيزا أكبر من الفراغ؛ نظراً لأن جزيئاتها تتحرك وتتنقل في هذه الحالة من مكان لمكان بشكل أكبر.
أما في الوقت الراهن، فقد أصبح ذوبان الأنهار الجليدية، لا التمدد الحراري، هو السبب الرئيسي في ارتفاع منسوب البحار والمحيطات.
مرحلة حرجة
وفي القطبين الشمالي والجنوبي، تجري مثل هذه التغيرات بوتيرة وقوة هائلتيّن على نحو لم تشهد له الأرض مثيلا منذ 10 ملايين سنة. وفي هذا السياق، تفيد الأرقام بأن وتيرة الاحترار – أو ارتفاع درجة الحرارة السطحية – التي يشهدها القطب الشمالي توازي – على الأقل – ضعف مثيلاتها في باقي أنحاء العالم.
ويشير أحد التقديرات إلى أنه إذا ما تراوح متوسط الزيادة في الاحترار العالمي في المستقبل ما بين درجتين وثلاث درجات سيليزية – على سبيل المثال – فإن ذلك سيعني أن احترار القطب الشمالي سيزيد بما يتراوح ما بين 6 و8 درجات سيليزية.
ويعود ذلك جزئيا إلى أن الرياح الساخنة القادمة من الجنوب، حاملة معها السخام وما يحتوي عليه من مواد ملوِثة، تتلاقى فوق هذه المنطقة. وتمتص جزيئات هذه المواد الملوِثة أشعة الشمس، وعندما تنعكس على الأسطح المتصلة بالجليد والثلوج تجعل لون هذه الأسطح أكثر قتامة، وتُسّرع عملية ذوبانها.
وفي الوقت الراهن، يمكن القول إن الأنهار الجليدية الموجودة في القطب الشمالي باتت كلها تقريبا آخذة في الانحسار. فالغطاء الجليدي بمنطقة غرينلاند؛ وهو ثاني أكبر غطاء جليدي من نوعه في العالم، يفقد 200 غيغا طن من الجليد سنويا، وهو ما يزيد أربع مرات عما كان الحال عليه قبل عقد واحد من الزمان.
وفي عام 2011، اكتشف الباحثون أن مساحة الصدوع في جزء واحد من أجزاء الغطاء الجليدي بغرينلاند زادت بنسبة 13 في المئة منذ عام 1985، وهو ما يزيد من وتيرة تدفق المياه الذائبة باتجاه البحار والمحيطات.
من جهة أخرى، فإن من شأن ذوبان ذاك الغطاء الجليدي بالكامل أن يؤدي إلى ارتفاع منسوب مياه البحر على مستوى العالم بواقع 7 أمتار (23 قدما). وإذا ما حدث هذا، جنبا إلى جنب مع ذوبان الغطاء الجليدي للقطب الجنوبي – وهو الغطاء الأكبر من نوعه على سطح الأرض – فإن ذلك سيؤدي بالقطع إلى حدوث تحولات على مستوى العالم بنسب ومعدلات هائلة على نحو أسطوري.
وبحسب ما يُعرف بنماذج المناخ، والموضوعة من قبل العلماء، فإنه من المتوقع أن تصل عملية ذوبان الصفائح الجليدية في غرينلاند والمناطق الغربية بالقطب الجنوبي إلى مرحلة حرجة، تتسارع بعدها معدلات ذلك الذوبان من دون سابق إنذار.
ويرجع ذلك إلى أن المياه الذائبة تُسهل عمليات التفكك والتحلل التي تحدث في مثل هذه المناطق. إلى جانب ذلك، فإن المياه – التي تغطى الآن مساحة أكبر من تلك المناطق – ستمتص قدرا أكبر من حرارة الشمس، وذلك لكون لونها داكن بشكل أكبر من لون الجليد والثلوج، وهو ما يقود في نهاية المطاف إلى التسريع بشكل أكبر من وتيرة ذوبان الجليد.
وتتباين النماذج المناخية فيما بينها في المعدلات التي تتوقعها لارتفاع منسوب مياه البحر. فمجموعة جيمس هانسن العلمية العاملة في مختبر “غودارد سبيس فلايت سنتر” بوكالة الفضاء والطيران الأمريكية (ناسا) تتوقع أن يصل هذا الارتفاع على مستوى العالم إلى 7 أمتار بحلول عام 2100.
ولكن ثمة تقديرات أكثر تحفظا في هذا الإطار، كذاك الذي تتبناه مجموعة “ستيفان رامسدورف” التي تعمل في معهد بوتسدام الألماني. إذ تتوقع هذه المجموعة ألا يزيد ارتفاع منسوب مياه البحر عن 1.4 متر بحلول نهاية القرن الجاري.
لكن الارتفاع بهذا المعدل سيكون كافيا بدوره لغمر جزر منخفضة الارتفاع مثل المالديف، إلى جانب غمر العديد من المدن الكبرى في العالم. ومن جهته، يقول رامسدورف نفسه إنه لا يمكن استبعاد ارتفاع منسوب مياه البحار بواقع أمتار، لا سنتيميترات، إذا ما شهدت عمليات ذوبان المياه نقاط تحول فاصلة، لا يضعها النموذج المناخي الذي أعدته مجموعته البحثية في الحسبان.
إعادة رسم “أطلس” العالم
بحسب المعطيات المتوافرة حاليا، ستصبح العديد من المدن الكبرى حاليا في العالم غير صالحة للعيش فيها؛ حتى قبل وقت طويل، من وقوع التغيرات الأكثر تطرفا، فيما يتعلق بارتفاع منسوب مياه البحر على وجه الأرض.
وها هي خريطة للعالم تُظهر مناطق اليابسة الأكثر عرضة لخطر ارتفاع مياه البحار. فمع ارتفاع منسوب المياه، سيؤدي حدوث موجات المد العالية، وتمدد مساحة المحيطات واشتداد قوة العواصف بحياة أعداد متزايدة من الناس، كما سيُلحق ذلك كله خسائر ودماراً أكبر بالبنية التحتية والممتلكات.
ولكن مياه المحيطات لن ترتفع كلها على شاكلة واحدة أو بنفس المعدلات. فمنسوب مياه المحيط الهادئ – على سبيل المثال – سيرتفع بمعدل يزيد عن متوسط ارتفاعه في الظروف العادية بنسبة 20 في المئة.
وبينما ستختفي بعض الجزر الواقعة في المناطق المدارية من على الخريطة، ستظهر على السطح جزر جديدة في المنطقة القطبية الشمالية. ونموذج لذلك، هو ما حدث في عام 2006، حين ظهرت إلى الوجود جزيرة أُطلق عليها اسم “أونارتوك كيكرتاك” (أو جزيرة الاحترار).
وكان ذلك نتيجة لذوبان جسر جليدي كان يربط هذه المنطقة في السابق بالبر الرئيسي في منطقة غرينلاند. وفي الصين، يمكن أن تؤدي عمليات استخراج المياه الجوفية التي تجري لخدمة مزارع الأسماك في منطقة دلتا النهر الأصفر إلى إغراق الأرض بالمياه، وهو ما سيقود إلى زيادة منسوب مياه البحر هناك بنحو مئة ضعف متوسط الزيادة في العالم.
وفي ظل كل هذه التغيرات، فإنه سيكون من الضروري أن تشهد حقبة الأنثروبوسين إعادة رسم خرائط العالم.
كما أن مثل هذه التغيرات قد تؤدي إلى إطالة أمد اليوم بواقع ثلثي الثانية تقريبا. فبفعل ذوبان القمم الجليدية، تقترب كتل المحيطات من خط الاستواء، بما يزيد معدل القصور الذاتي، ويبطئ دوران الأرض حول نفسها بواقع كسر من الثانية.
تهجير السكان
وعلى كل حال، فإذا ما تسارعت وتيرة عمليات ذوبان الصفائح الجليدية – خلال العقود القليلة المقبلة – فسيكون من العسير للغاية على البشر التكيف مع ذلك، ومع ما سينجم عنه من آثار. ففي المناطق الواقعة على السواحل، لن تكون الاستحكامات المتخذة حاليا كافية لحماية التجمعات السكانية الموجودة هناك من مستويات المياه المرتفعة المتوقعة.
وفي هذه الحالة، سيتعين تهجير مدن بأكملها ونقلها من مواقعها الحالية، بما فيها من محطات لتوليد الطاقة، ومبانٍ إدارية، ومحطات لوسائل النقل والمواصلات، وهو ما سيشمل كذلك نقل ملايين المنازل والمكاتب.
وفوق كل هذا، ستتلوث الأراضي الزراعية ومصادر المياه بفعل مياه البحر المتسربة إليها، وهو ما سيؤثر بالسلب على إمداداتنا الغذائية. المفارقة، أنه كلما كانت المناطق الساحلية أكثر تطورا وتقدما، كلما زادت الخسائر الاقتصادية التي ستحيق بها. وتظهر هذه الخريطة، على سبيل المثال، الخسائر المحتملة التي يمكن أن تُمنى بها الولايات المتحدة في هذا الصدد.
فالمقيمون هناك سيضطرون إما إلى الانتقال إلى بقاعٍ أخرى بعيداً عن الساحل في داخل البلاد، أو اللجوء إلى الإقامة في مناطق تقع على ارتفاعات أعلى. ولكن هناك احتمالات أخرى، من بينها ما قد يحدث في إحدى البلدات الساحلية الواقعة في ولاية نيوجيرسي، فقد تم طرح خطط لنقل كامل منطقة وسط المدينة إلى بقعة أخرى أعلى ارتفاعاً لعدة أقدام، عن مستواها الحالي.
حلول
وبحسب التقديرات، فإنه سيستوي سكان المناطق الساحلية في دول العالم الأشد فقرا مثل بنغلاديش وبورما، مع نظرائهم في المدن الأكثر ثراءً مثل نيويورك وشنغهاي في التوقيت الذي سيسعون فيه للبحث عن منازل جديدة لهم، بعدما سيجبرهم ارتفاع منسوب مياه البحر على أن يصبحوا لاجئين بلا مأوى.
لكن في الوقت نفسه، يمكن القول إن هناك من البشر من هم أذكياء وبارعون، ولذا فلا يوجد شك في إمكانية بلورة ثلة من الحلول المبتكرة لهذه المشكلة، مثل إقامة المدن العائمة أو تشييد المنازل التي ترتكز على دعائم طويلة كسيقان طائر البلشون الأبيض؛ وهو طائر يعيش في الماء.
وعلى سبيل المثال، يموّل الملياردير بيتر ثيل – وهو أحد مؤسسي موقع “باي بال” الإلكتروني لتحويل الأموال عبر شبكة الإنترنت – معهد سيستيدنغ الذي يأمل في إنشاء دول عائمة مستقلة بذاتها.
وفي عام 2008، أطلق المعهد مسابقة لإنشاء أول مدينة عائمة في العالم بحلول عام 2015.
وقرر المعهد أن يمنح جائزة باسم (بوسيدون أوورد) لأول مدينة عائمة تضم 50 ساكنا على الأقل؛ وتتمتع بعدة شروط. من بينها أن يقيم هؤلاء السكان فيها على نحو دائم، وأن يكون بوسع المدينة أن توفر بجهودها الذاتية الأموال التي تحتاج إليها، وكذلك أن تكون قادرة على طرح عقارات عائمة في الأسواق العقارية.
وإلى جانب هذا كله، سيتعين على مثل هذه المدينة أن تتمتع بالاستقلالية من الناحية السياسية.
وفي دولة مثل بنغلاديش، هناك بالفعل تحضيرات تجري في الوقت الراهن لمواجهة خطر ارتفاع منسوب مياه البحر. إذ يجري حاليا تشييد العديد من المشروعات الطموحة لبناء منازل ومدارس عائمة، بما يُمكّن السكان من التعامل مع مشكلة ارتفاع المياه.
وتتضمن التصميمات التي تُطرح في هذا الصدد، كجزء من مشروع لتشييد منازل مُقاوِمة للفيضانات بأقل التكاليف وبهدف خدمة محدودي الدخل، نماذج لمنازل ترتكز على قواعد وأسس خفيفة الوزن وقابلة للطفو.
وتتألف هذه القواعد والأسس إما من القوارير البلاستيكية أو من مادة (الفيروسمنت)؛ وهي مادة تشكل أحد أنواع الخرسانة المسلحة، وتتشكل من مزيج من الأسمنت والرمال والمياه والشبكات السلكية. أما المنازل نفسها، فتتألف من سيقان نبات الخيزران.
وبوسع هذه السيقان، أن ترتفع عن الأرض لثلاثة أقدام تقريبا، وهو ما يعادل نحو متر. ولكن المهندسين المعماريين يقولون إنه من الممكن استخدام سيقان هذا النبات في بناء المنازل على نحو يُمكنّها من مواجهة فيضانات ذات مستويات أعلى من ذلك.