يبدو أن الحرب الشرسة بين البشر والبكتيريا والفيروسات لن تنتهي، فعلى مر التاريخ، واجه الإنسان أشكالاً متعددة من هذه الكائنات، مثل الطاعون والجدري والجمرة الخبيثة، لكن أسلحتها الهجومية تتجدد لتعاود مهاجمة الإنسان بطرق مختلفة.
وفي عام 1928، حدث اكتشاف مهم، على يد العالم البريطاني، ألكسندر فليمنج، الذي استخدم “البنسلين” كأول مضاد حيوي لحماية الإنسان من الأمراض الخطيرة، ومهّد هذا الاكتشاف الطريق لحقبة جديدة في علاج الالتهابات، جعلتنا لم نعد بحاجة إلى الاعتماد على أجسامنا للتخلص من البكتيريا.
لكن على مدى العقود القليلة الماضية، أصبحت قدرة المضادات الحيوية على منع نمو البكتيريا والفيروسات محدودة إلى حد كبير، إذ أصبحت أعداد متزايدة من سلالات بكتيرية مقاومة للعلاج بالمضادات الحيوية.
والسؤال، ماذا سيحدث لو تعرضنا فجأة لهجوم جديد من البكتيريا والفيروسات القاتلة المخبأة منذ آلاف السنين، أو التي لم تصادفنا من قبل؟
هذا ما طرحه باحثون فرنسيون، فى سياق تحذيرهم من الآثار المحتملة للتغيرات المناخية التي ستؤدي إلى ذوبان الجليد المتجمد منذ آلاف السنين، ويحوي فيروسات وبكتيريا قديمة، ستستيقظ من سباتها، وتعود إلى الحياة من جديد، بحسب تقرير نشرته شبكة “بي بي سي” البريطانية، أمس الخميس.
ظهور الجمرة الخبيئة
ففي أغسطس/آب 2016، وقع حدث غريب، في شبه جزيرة يامال الواقعة على بعد 2500 كيلومتر شمال شرق موسكو، بالدائرة القطبية الشمالية، حيث توفي صبي يبلغ من العمر 12 عاما، ودخل 23 شخصا إلى المستشفى بعد إصابتهم بالجمرة الخبيثة.
ويكشف ظهور مرض الجمرة الخبيثة، بعد 75 عامًا على تسجيل آخر إصابة الحالات من هذا المرض في المنطقة، حجم التهديد الذي يشكله ذوبان التربة الصقيعية، وهي أراض جليدية تضم فيروسات قاتلة بعضها متجمد منذ آلاف السنين، وسط تساؤلات عن إمكانية عودة ظهور أمراض خطيرة كالجدري بفعل التغير المناخي.
وبحسب العلماء، يعود ظهور هذه الحالات على الأرجح إلى ذوبان الجليد عن جيفة غزال “الرَنّة” التي نفقت بسبب إصابتها بالجمرة الخبيثة قبل عقود عدة.
فبعد انتقال هذه البكتيريا القاتلة وهي عامل مسبب للأمراض ينتشر بسهولة على شكل خلايا تكاثر، إلى المياه والتربة القريبة منها، انتقلت الإصابة إلى قطعان من غزلان “الرَنّة” المنتشرة في المنطقة.
وحذر العلماء أنه مع استمرار ارتفاع درجة حرارة الأرض، سوف يذوب المزيد من الجليد التجمد.
ويعرف العلماء منذ زمن بعيد الأثر المأسوي الذي يحمله ذوبان الجليد في التربة الصقيعية أو التربة المجمدة، وهي أراض متجمدة بطريقة دائمة في العمق، على أنماط الحياة والأنظمة البيئية.
ويقول الباحثون إن التربة المجمدة هي “المكان المثالي لبقاء البكتيريا على قيد الحياة لفترات طويلة جدا، ربما تدوم لمليون سنة”.
عالم البيولوجيا التطورية، جان ميشيل كلافيري في جامعة “إكس مارسيليا” في فرنسا، قال: “إن الجليد يشكل بيئة مناسبة جدا لحفظ الميكروبات والفيروسات”.
وأضاف: “تبقى الفيروسات المسببة للأمراض التي يمكن أن تصيب البشر أو الحيوانات في الطبقات الصخرية القديمة، بما في ذلك بعض الأمراض التي تسببت فى أوبئة عالمية في الماضي”.
وأشار إلى أنه في أوائل القرن العشرين وحده، توفي أكثر من مليون رأس بسبب الجمرة الخبيثة، ولم يكن سهلا حفر مدافن عميقة، لذلك تم دفن معظم هذه الحيوانات بالقرب من السطح، ويبلغ عددها حوالى 7000 مدفن شمال روسيا، لذلك فالخطر الكبير يكمن تحت التربة المجمدة.
وفى العام 1890، أصيبت سيبيريا بوباء الجدري، الذى أدى لوفاة ما يصل إلى 40 ٪ من سكانها، ودفنت جثثهم تحت الطبقة العليا من الجليد المتجمد، على ضفاف نهر كوليما، وبعد 120 عاما على الواقعة، بدأ ذوبان التربة الصقيعية فى المنطقة.
وفي مشروع بدأ تسعينيات القرن الماضى، اختبر علماء من مركز أبحاث علم الفيروسات والتكنولوجيا الحيوية في جامعة نوفوسيبيرسك الروسية، عينات من جثث الرجال الذين لقوا حتفهم خلال الأوبئة الفيروسية في القرن التاسع عشر ودفنوا في التربة الصقيعية الروسية.
ووجد الباحثون قروح مميزة للعلامات التي تركها الجدري فى الجثث، ورغم أنهم لم يجدوا فيروس الجدري نفسه، لكنهم اكتشفوا شظايا من الحمض النووي للفيروس.
وفي فبراير 2017، أعلن علماء وكالة “ناسا” أنهم وجدوا حوالي 14 نوعا مختلفا من الجراثيم والكائنات الدقيقة والفيروسات التي لم تكن معروفة سابقا في مجال العلوم.
كا وجدوا أن هذه الكائنات عاشت في بيئة معزولة لمدة أكثر من 60 ألف سنة، وقد عثروا على هذه الكائنات في بلورات من الكريستال في كهف بالمكسيك.
وفى دراسة أجريت عام 2005، نجح علماء وكالة الفضاء والطيران الأمريكية “ناسا” في إحياء بكتيريا كانت مغطاة في بركة مجمدة في ألاسكا لمدة 32 ألف سنة.
فيروسات عملاقة
وفى 2014، تمكن باحثون فرنسيون من جامعة “إكس مارسيليا” من إعادة فيروس عملاق مجهول للحياة بعد أن ظل متجمدا في الجليد على مدى نحو 30 ألف سنة.
وشرح الفريق البحثي أن الفيروس الذي أطلقوا عليه اسم “بيثو فيروس سايبركوم” يصيب أنواعا معينة من الأميبيا، التي تعيش داخل الأمعاء بشكل طفيلي أو متعايش.
والفيروسات العملاقة هي فيروسات كبيرة مثل البكتيريا، ويمكن رؤيتها باستخدام ميكروسكوب ضوئي.
وكان العلماء يعرفون حتى الآن مجموعتين مختلفتين جدا من الفيروسات العملاقة، وهي مجموعة “ميجا فيروس” التي يندرج تحتها نوع واحد من الفيروسات وهو “ميجا فيروس شيلينسس”، والثانية مجموعة “فيروسات باندورا”، ولم يتم الكشف عن هاتين المجموعتين سوى قبل نحو 10 سنوات.
لكن فريق الباحثين اكتشف نوعا ثالثا من هذه الفيروسات العملاقة يبلغ طوله 1.5ميكرومتر، وذلك بعد إذابة عينات من الجليد الدائم وترك هذه الفيروسات تعيش مع ما يعرف بـ”أميبيا الشوكميبة” والتي يستخدمها العلماء أرضية لإعطاء الفيروسات فرصة للتكاثر مرة أخرى.
وبحسب عالم البيولوجيا التطورية، جان ميشيل كلافيري، يظل الخطر الكامن حول التهديدات بذوبات الجليد غير معروف بشكل كبير، لكنه يظل موجودًا، خاصة فى ظل ظهور أنواع من البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية.
وأضاف كلافيري أن هناك خطر آخر للتغيرات المناخية لابد من الالتفات إليه، وهو عندما تزداد حرارة الأرض، ستنتشر أمراض مثل الملاريا والكوليرا وحمى الضنك، بشكل كبير، حيث تزدهر هذه الأمراض في درجات حرارة أكثر دفئا.
وفى يناير 2017، أصدرت عدة وكالات أرصاد دولية، تقارير تفيد بأن عام 2016 شهد أعلى متوسط درجات حرارة بالنسبة لكوكب الأرض منذ عام 1880، عندما بدأ تسجيل الأحوال المناخية للأرض.
وبدأ تسجيل الارتفاعات القياسية لدرجات حرارة الأرض عام 2005، ثم 2010، و2014، و2015، و2016.
وعامة، بدأت درجة حرارة الأرض في الارتفاع منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، وهي ظاهرة يرجعها مختصون إلى انبعاث الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري.
محمد السيد / الأناضول