زاهر هاشم

عندما نفكّر في التلوّث، فإن أول ما نفكّر به عادةً السحب الكربونية السوداء من أدخنة المصانع ووسائل النقل التي تملأ أجواء المدن، أو البقع النفطية التي تلوّث السواحل والمحيطات، أو الحطام البلاستيكي الذي ينتشر في كل مكان على كوكب الأرض.

ويعرّف التلوث عمومًا بأنه إضافة مواد أو أشكال جديدة من الطاقة إلى البيئة المحيطة بمعدل أسرع من قدرة الطبيعة أو البشر على التعامل معه من خلال تخفيفه أو تحلله أو إزالته أو إعادة تدويره أو تخزينه شكل غير ضار، وحيث أن النشاط البشري قد أضاف إلى الطبيعة مستويات غير مسبوقة من الإضاءة الاصطناعية، فإن التلوث الضوئي يمكن أن يصنف كشكل جديد من أشكال التلوث الذي بات يؤرق الباحثين ونشطاء البيئة والمدافعين عن كوكب الأرض، والذي يزداد اتشاره وتزداد المخاوف بشأنه يومًا بعد يوم، وهو أحد نتاجات تطور المجتمعات تقنيًا وصناعيًا، وله آثار لا يمكن تجاهلها على صحة الإنسان، وعلى النظام والتوازن البيئي والأحيائي.

يعرّف التلوث الضوئي بأنه تغيير في المستويات الطبيعية للظلام من خلال زيادة تركيز جزيئات الضوء في البيئة الليلية، نتيجة النشاط البشري.

ظلّت أنظمة الضوء الطبيعي متسقة إلى حد ما على مدى فترات طويلة من تاريخ الأرض، وهذا ما يجعل التلوث الضوئي اضطرابًا جديدًا من غير المرجح أن تكون الكائنات الحية قد طورت القدرة على التعامل مع هذا التغيير، وبالتالي، فمن غير المستغرب أن تمتلك الأضواء الاصطناعية في الليل القدرة على تعطيل فسيولوجيا وسلوك العديد من الكائنات الحية بشكل أساسي.

ولبيان حجم التلوث الضوئي الذي يصيب المدن الكبرى، فإن بعض سكان المدن لا يعرفون حتى كيف تبدو سماء الليل الطبيعية، على سبيل المثال، أبلغ سكان مدينة لوس أنجلوس الامريكية مراكز الطوارئ المحلية عن وجود “سحابة فضيّة عملاقة” في السماء المظلمة بعد انقطاع التيار الكهربائي عن كامل المدينة بعد زلزال أصابها عام 1994، لكن ما رأوه لأول مرة، كان مجرّة ​​درب التبانة، التي ظل يحجبها التلوث الضوئي لفترة طويلة.

تأثير الأضواء الاصطناعية

في عام 1879، أضاءت مصابيح توماس إديسون المتوهجة أحد شوارع نيويورك لأول مرة، ليبدأ بذلك العصر الحديث للإضاءة الكهربائية، ومنذ ذلك الحين، تضيء المصابيح الكهربائية الشوارع والساحات ومواقف السيارات واللوحات الإعلانية ونوافذ المباني التجارية والمكاتب طوال الليل، ليصبح العالم غارقًا في الضوء الكهربائي بعد أن كان غارقًا في الظلام.

وفرت الإضاءة الاصطناعية موردًا رئيسيًا للبشرية، إذ تمكّنت المجتمعات من تمديد أنشطتها إلى ساعات متأخرة من الليل، واستخدام العديد من المساحات الداخلية التي تفتقر إلى الضوء الطبيعي الكافي للعمل بها أثناء النهار، وهو ما حقق فوائد اقتصادية وتعليمية وطبية كبيرة للإنسان.

لقد جعل الضوء الاصطناعي الشوارع أكثر أمانًا وراحة للبشر في الليل، لكنه كأي إنجاز بشري آخر ترك آثارًا واضحة على البيئة المحيطة والكائنات الحية وحتى على الإنسان نفسه.

تؤثر مستويات الضوء الاصطناعي على نطاق واسع في سلوك الأنواع، بما في ذلك التكاثر والهجرة والبحث عن الطعام والافتراس وأنماط سلوكية أخرى، وعلى هذا النحو، فإن تغيير أنماط الضوء الطبيعي يمكن أن يؤثر سلبًا على الحياة البرية ويشكل تهديدًا للتنوع البيولوجي

يمكن للأضواء الاصطناعية الليلية أن تعطّل إيقاع الساعة البيولوجية للحيوانات البرية، وتتداخل مع أنماط النوم وأنماط الهجرة، وتحدث التأثيرات البيئية للضوء إما عن طريق التعرض المباشر للأضواء في المناطق الحضرية، أو بشكل غير مباشر عن طريق توهج السماء، أي التلوث الضوئي الناشئ عن الضوء الاصطناعي المتناثر من المدن، والذي يمكن اكتشافه في الأماكن النائية بعيدًا عن المراكز الحضرية.

وتشير الأدلة العلمية إلى أن الضوء الاصطناعي في الليل يترك آثارًا سلبية أو مميتة على العديد من الكائنات الحية، بما في ذلك البرمائيات والطيور، والثدييات، والحشرات، والنباتات.

التأثير على صحة الإنسان

مع زيادة النشاط الاقتصادي للإنسان في العصر الحالي يتزايد بشكل مستمر عدد الأشخاص الذين يعملون في فترات ليلية في جميع أنحاء العالم، وخاصة في البلدان الصناعية، حيث تتبنى كثير من دول العالم نموذج المجتمع الفعال على مدار 24 ساعةً، سواء في المنازل أو أماكن العمل.

لقد طوّر الإنسان، مثل جميع الأنواع على كوكبنا، عملياته البيوكيميائية والفسيولوجية التي تشكل دورة الخلية، أو موت الخلايا المبرمج، أو التعبير الجيني، أو الإفراز الهرموني، على إيقاع يومي يحاكي دوران الأرض، والذي تنتظم فيه فترات سطوع وغروب الشمس.

لكن العمل بنظام المناوبات، تحت الأضواء الاصطناعية، يغّير هذا التنظيم عن طريق كسر إيقاع الساعة البيولوجية في الجهاز العصبي المركزي، بالإضافة إلى تغيير الأنماط الغذائية.

وصنفت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IRAC) في يونيو/حزيران من عام 2019، العمل الليلي كعامل مسرطن محتمل للإنسان (مادة مسرطنة من المجموعة 2A)، بناءً على أدلة محدودة من الدراسات الوبائية وأدلة كافية من النماذج الحيوانية.

يؤدي اضطراب إيقاعات الساعة البيولوجية إلى تثبيط هرمون الميلاتونين، مما يؤدي إلى اضطرابات النوم، ومشاكل الصحة العقلية، وصولًا إلى ما هو أسوأ من ذلك، إذ كشفت الدراسات التي أجريت على الممرضات اللاتي يعملن ليلًا عن وجود علاقة بين سرطان الثدي والمناوبات الليلية المتعاقبة لفترات طويلة، ومن بين العوامل المرتبطة بذلك، أثر التغير في بعض علامات إيقاع الساعة البيولوجية (مثل الميلاتونين)، والعلامات اللاجينية (مثل التيلوميرات)، على إفراز الهرمونات التناسلية.

التأثير على النظم البيئية

تكيفت معظم أشكال الكائنات الحية مع استخدام الضوء كمصدر للطاقة أو المعلومات، يستخدم المنتجون الأساسيون (مثل النباتات والطحالب والبكتيريا) الضوء لتجميع الجزيئات المعقدة والنمو وتخزين الطاقة، وتستخدم الغالبية العظمى من الكائنات الحية الضوء أيضًا كحامل للمعلومات.

تحتاج النباتات إلى الضوء كمصدر للطاقة التي تحصل عليها من عملية التمثيل الضوئي، وكمصدر رئيسي للمعلومات تستخدمه النباتات لتوقيت نموها وتوقيت ظهور الأوراق وبداية الإزهار والتصلب.

أظهرت الدراسات أن الأضواء الاصطناعية الليلية يمكن أن تؤثر على إنتاج الكتلة الحيوية النباتية، وقد يكون هناك أيضًا تأثير محتمل على التمثيل الضوئي، نتيجة التعرض لكميات إضاءة استثنائية، إذ من الضروري للنباتات منع الضرر التأكسدي الضوئي والقيام بآليات إصلاح نشطة أثناء الليل، والتي قد تعوقها الإضاءة الاصطناعية، و بالنظر إلى هذه العوامل مجتمعة، فقد تؤثر الأضواء الاصطناعية ليلًا بشكل عميق على فسيولوجيا وتكوين وعمل المجتمعات النباتية، بما في ذلك انخفاض الكتلة الحيوية النباتية في جميع الأنواع التي تمت دراستها.

يمكن أن يؤثر الوهج الناتج عن الأضواء الاصطناعية أيضًا على موائل الأراضي الرطبة التي تعد موطنًا للبرمائيات مثل الضفادع والعلاجيم، والتي يعد نعيقها أثناء الليل جزءًا من طقوس التكاثر، تعطّل الأضواء الاصطناعية هذا النشاط الليلي، وتؤثر على عملية التكاثر وبالتالي انخفاض أعداد هذه الأنواع.

تعيش السلاحف البحرية في المحيط، لكن بيوضها تفقس ليلًا على الشاطئ، وتندفع صغار السلاحف نحو المياه من خلال اكتشاف الأفق الساطع فوق المحيط، يمكن للأضواء الاصطناعية أن تجذبهم نحو الداخل بعيدًا عن المحيط وتعرض حياتهم للخطر.

التلوث الضوئي والافتراس

تعد التفاعلات بين المفترسات والفرائس من السمات الرئيسية للمجتمعات الطبيعية، وتشكل عاملًا أساسيًا في تنظيم أعداد الكائنات الحية، وقد تتأثر هذه التفاعلات بهذا التباين الضوئي الجديد اعتمادًا على كيفية استخدام الأنواع للضوء للتواصل والعثور على الفرائس أو لتجنب الحيوانات المفترسة.

يمكن للحيوانات المفترسة أن تفقد أو تقلل من قدرتها على اكتشاف الفرائس في الظلام، ولكن هذا ليس هو الحال خلال ظروف الإضاءة الاصطناعية الليلية، إذ يمكن لأنواع الفرائس تقليل نشاطها أو زيادة استخدام المخابئ استجابة لزيادة خطر الافتراس المتصور.

تتجنب مجموعات واسعة من الثدييات الليلية المناطق المفتوحة في الليالي المقمرة، ويؤدي هذا التجنب إلى تقييد نشاط وحركات البحث عن الطعام، أو تقليل المدة الإجمالية للنشاط، أو تركيز البحث عن الطعام خلال أحلك فترات الليل.

وتأكل الحيوانات العاشبة كميات أقل من الطعام خلال الليالي المقمرة لتجنب الحيوانات المفترسة، لذلك فإن التلوث الضوئي الذي يظهر السماء ساطعة متوهجة بشكل مصطنع ليلًا، كما لو كانت مضاءة بقمر مكتمل، قد يدفع بهذه الحيوانات إلى تقليل نشاطها لفترات أطول من الطبيعية، وبالتالي تصبح مهددة بنقص مستمر في كمية الغذاء التي تحصل عليها.

التأثير على الشعاب المرجانية

وجدت دراسة نُشرت عام 2023 في مجلة “نيتشر” أن التلوث الضوئي الناجم عن المدن الساحلية يمكن أن يخدع الشعاب المرجانية ويدفعها إلى التفريخ خارج الأوقات المثلى التي تتكاثر فيها عادة.

وتعتبر عملية تفريخ الشعاب المرجانية المرتبطة بالدورات القمرية والتي تؤدي إلى إطلاق الأمشاج (الخلايا التناسلية) في ليالٍ معينة من السنة، أمرًا بالغ الأهمية للحفاظ على الشعاب المرجانية واستعادتها، خصوصًا بعد تأثرها إلى حد بعيد بارتفاع درجة حرارة المحيطات والضغوطات البيئية الأخرى.

وتمكن الباحثون من إظهار أن الشعاب المرجانية المعرضة للضوء الاصطناعي في الليل تفرّخ في وقت أقرب من موعد اكتمال القمر مقارنة بتلك الموجودة على الشعاب المرجانية غير المضاءة، ويمكن أن يقلل التفريخ في ليال مختلفة من احتمالية تخصيب بويضات المرجان وإنتاج شعاب مرجانية بالغة جديدة.

اقرأ أيضاً: تغيّر المناخ يهدد بـابيضاض الشعاب المرجانية على نطاق واسع

التأثير على الطيور المهاجرة

تهاجر الطيور أو تتنقل ليلًا اعتمادًا على ضوء القمر وضوء النجوم، وقد تؤدي الإضاءة الاصطناعية إلى حرف هذه الكائنات المهاجرة عن مسارها باتجاه أماكن خطرة في المدن.
تشكل تصادمات المباني، وخاصة الاصطدامات بالنوافذ، تهديدًا بشريًا كبيرًا للطيور، حيث تشير التقديرات التقريبية ما بين 100 مليون إلى مليار طائر مهاجر يقتل سنويًا في الولايات المتحدة وحدها، وتزداد هذه الأعداد اعتمادًا على النسبة المئوية ومساحة سطح المباني المغطاة بالزجاج وكمية الضوء المنبعثة من النوافذ.

تعتمد الطيور المهاجرة أيضًا على إشارات موسمية حول التوقيت المناسب لهجرتها، ويمكن أن تتسبب الأضواء الاصطناعية في هجرتها في وقت مبكر جدًا أو متأخرٍ جدًا وبالتالي تفويت الظروف المناخية المثالية للتعشيش والبحث عن الطعام والتكاثر.

إن العمل على تقليل الضوء الاصطناعي من خلال حملات إطفاء الأنوار غير الضرورية، وفهم مسارات الطيور في المجالات الجوية، واستخدام الزجاج الصديق للطيور الذي يحتوي على مزايا تجعله أكثر وضوحًا للطيور، سوف يقلل من خسائر هذه الطيور بسبب التلوث الضوئي.

أخبار البيئة

اترك تعليقاً

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال الاسم هنا