رحلة عطاء: ذكرى رحيل أ.د. محمد عبد الفتاح القصاص.. حكاية عالم نذر حياته لحماية البيئة ومكافحة التصحر
د. طارق قابيل *
رؤية القصاص للتغيرات المناخية
كان القصاص صاحب أول تحذير من غرق مناطق في شمال الدلتا، نتيجة ارتفاع مستوى سطح البحر، كأحد التداعيات الناجمة عن التغيرات المناخية. وفي أكثر من مناسبة، ظل العالم الراحل يردد التحذير من المخاطر المحتملة للتغيرات المناخية، والتي تؤدي إلى ارتفاع مستوى سطح البحر، مما يتسبب في غرق الكثير من المناطق الساحلية، ومنها مناطق في شمال دلتا نهر النيل.
وما يذكره مسؤولو المنظمات الدولية والإقليمية التي تعنى بالبيئة والتي عمل فيها القصاص أو أسهم في تطوير أدائها أنه كان غزير الإنتاج وثاقب الرؤية ومثلا في قمة التواضع. ومن هذه المؤسسات التي ترك فيها الراحل بصماته الاتحاد الدولي لصون الطبيعة.
قال يوما في أحد أحاديثه لمونت كارلو الدولية بين الهزل والجد إن ما يحز في نفسه أكثر فرضية ابتلاع برج البرلس قبل نهاية القرن الجاري. وهي فرضية جادة. وكان دوما يحث السياسيين والباحثين على إعداد العدة بسرعة لبدائل تحد من وقع هذه الكارثة المحتملة على سكان الدلتا وعلى الاقتصاد المصري برمته. فلا ننس أن هذه المنطقة تؤوي لوحدها اثني عشر بالمائة من الأراضي المصرية الصالحة للزراعة.
وفى حوار مع الصحفي خميس البكري في جريدة الأهرام بتاريخ 22 فبراير 2002، والذي جاء بعنوان «الدكتور محمد عبدالفتاح القصاص عميد علماء البيئة في مصر والعالم العربي : البيئة لا تعنى قضايا التلوث فقط بل تهدف للتنمية المستدامة»، قارن القصاص في هذا الحوار ما بين قضية ثقب الأوزون، و قضية الاحتباس الحراري، فيرى أنه بسبب تحذير العلماء من أن هذا الثقب سيتسبب في العديد من الأمراض، مثل سرطان الجلد وأمراض نقص المناعة وحدوث سحابات على العين، حدث ضغط شعبي قوي على حكومات الدول، مما أدى بها إلى عقد بروتوكول مونتريال 1987، وهي اتفاقية دولية تهدف إلى حماية طبقة الأوزون، وذلك عن طريق التخلص من إنتاج عدد من المواد التي يعتقد أنها سبب في هذه الظاهرة.
وذلك عكس ما حدث في قضية الاحتباس الحراري، والتي حدثت بسبب تلوث الهواء والانبعاث الحراري، مما يؤدي إلى ارتفاع حرارة الأرض، وذوبان الجليد، وغرق الشواطئ والجزر، ووفقاً للقصاص فى الحوار، فلم يتخذ أي إجراء عالمي لمواجهة هذا الخطر. ووضح القصاص في عبارات سهلة موجزة كيف أن البيئة أصبحت عنصرا مهما من عناصر التنمية المستدامة.
واختلف الدكتور القصاص، في رؤيته فيما يخص بدء تغيرات المناخ بالفعل في مصر وقال في أحد أحاديثه الصحفية: “لا أحد يستطيع أن يقول إن التأثيرات ظهرت في مصر بعد، لأن الخبراء العالميين في المجال البيئي توقعوا حدوث ذلك في النصف الثاني من الألفية الثالثة أي بعد 2050، لأن تركيز الغازات لابد أن يزيد على 500 جزء من المليون لكي تظهر آثار التغيرات المناخية”.
وأشارت دراسات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغيرات المناخية «IPCC» إلى أن الارتفاع المستمر في المتوسط العالمي لدرجة الحرارة سوف يؤدى إلى العديد من المشكلات الخطيرة كارتفاع مستوى سطح البحر مهددًا بغرق بعض المناطق في العالم، وكذلك التأثير على الموارد المائية والإنتاج المحصولي، بالإضافة إلى انتشار بعض الأمراض. ويحدث تغير المناخ في معدل حالة الطقس في منطقة معينة، وقد يشمل ذلك معدل درجات الحرارة، ومعدل التساقط، وحالة الرياح، هذه التغيرات يمكن أن تحدث بسبب العمليات الديناميكية للأرض كالبراكين، أو بسبب قوى خارجية كالتغير في شدة الأشعة الشمسية أو سقوط النيازك الكبيرة، ومؤخراً بسبب نشاطات الإنسان.
فعندما اتجه الإنسان لتطوير الصناعة في الأعوام الـ150 السابقة، لجأ إلى استخراج وحرق مليارات الأطنان من الوقود، مما تسبب في تصاعد غازات تحبس الحرارة كثاني أكسيد الكربون، وهي من أهم أسباب تغير المناخ حيث عملت هذه الكميات من الغازات على رفع حرارة الكوكب إلى 1.2 درجة مئوية مقارنة بمستويات ما قبل الثورة الصناعية.
مهندس التصحر
يعد القصاص مهندس مفهوم التصحر في العالم العربي والذي نمى معارفه البيئية على نحو أهلّه فعلا ليكون موسوعة في علوم البيئة. ويعد القصاص فعلا مهندس مفهوم التصحر ورائدا في طرح حلول المشكلة طوال عشرات السنين. وكان دوما ينصح طلاب العلم من العرب وغير العرب بالمسارعة على الأقل إلى التوثيق بدقة للثروة النباتية الأصيلة لاسيما في المنطقة العربية. وكان يردد على مسامع زواره أن هذه الثروة مهددة اليوم بظاهرة التغيرات المناخية القصوى وبخاصة عبر فترات الجفاف التي تطول أكثر من اللزوم.
لقبته المجلة الدولية للعلوم النباتية في المقال الافتتاحي لأحد أعدادها بـ «مهندس التصحر»، وذلك كان احتفالا بمرور 75 عاماً على ميلاد الدكتور محمد عبدالفتاح القصاص (1921-2012)، الأستاذ وخبير البيئة المصري. وتحدث خبراء ومسؤولون بيئيون من دول مختلفة، عن العالم المصري الراحل، الدكتور محمد عبدالفتاح القصاص بقولهم “لو لدينا مثل هذا الرجل، لزرعنا الصحراء”.
وقد ورد ذلك أيضا في عدد الأهرام الصادر بتاريخ 18 أغسطس عام 1996. ضمن مقدمة لحوار أجرته الصحفية ماري يعقوب مع العالم الكبير، وذلك تحت عنوان “فى عيده الماسى، مهندس الصحراء.. ونصف قرن من البيئة العالمية». وكان سبب إطلاق هذا اللقب عليه، وفقا لـلأهرام بأنه: «صاحب تعبير Desertification، فهو أول من استخدمه في اللغة الإنجليزية بمعنى التصحر، حيث قام هو وتلاميذه بدراسة النباتات والتجمعات النباتية في الصحاري والبيئات الساحلية، ليس في مصر فقط، ولكن في المنطقة العربية من السودان والخليج العربي، وشارك في دراسة الأراضي القاحلة وكان من أوائل رواد العالم الذين حذروا من التصحر.
قادته دراسة تصحر الأراضي شيئا فشيئا إلى الاهتمام بتصحر البحار من خلال الصيد الجائر وانعكاسات ظاهرة الاحتباس الحراري على الثروة البحرية في المنطقة العربية. واكتشف في سنوات عمره الأخيرة أن برج البرلس مسقط رأسه والموقع الأكثر انخفاضا في منطقة الدلتا المصرية سيكون في مقدمة الأماكن التي ستغمرها مياه المتوسط جراء هذه الظاهرة.
لم يأت اهتمام القصاص بالطبيعة ومفرداتها من فراغ، فهو ابن «برج البرلس»، وهي إحدى القرى المشهورة بنشاط الصيد. والده كانت صنعته العمل في إعداد مراكب الصيد، وفقاً لما ورد على لسان عاشق الحياة والطبيعة. فقد كان متأملاً منذ طفولته الطبيعة وكائناتها الحية، ولذلك قرر التخصص في دراسة العلوم الطبيعية بكلية العلوم جامعة القاهرة، وكان سعيد الحظ بتلقيه التعليم على أيدي كبار الأساتذة من ألمانيا وسويسرا وإنجلترا، إلى جانب قمم من الأساتذة المصريين. وكانت نقطة التحول في المسيرة العلمية للقصاص عندما قضى بجامعة كامبردج في المملكة المتحدة ٤ أعوام للحصول على درجة الدكتوراه، وبعد الحصول عليها والاستعداد للرجوع لمصر، همس أستاذه الإنجليزي في أذنيه بالعبارة التي قلبت حياته العلمية، وهذه العبارة كانت – كما وردت في الجزء الثاني من الاحتفال بعيد عبدالفتاح القصاص الماسي بعدد الأهرام في 25 أغسطس 1996 – «انظر إلى ما يصفه العلماء الإسرائيليون في دراسات البيئة، وقد خدعوا العالم وأوجدوا انطباعاً بأنهم قادة العالم في أبحاث الصحراء”
ووفقاً لمهندس الصحراء في حواره مع «الأهرام» فقد كانت هذه العبارة هي السبب الرئيسي في اتجاهه لدراسة الصحراء، وقطع شوطا كبيرا ومهما فيها، حتى نجح في جعل مصر قبلة العالم في أبحاث الصحراء.
ولكن هذا المشوار لم يكن بالهين، فقد اصطحب عدداً من الطلاب المصريين الذين التفوا حوله لينهلوا من علمه، وذهبوا للدراسة والبحث في الصحراء المصرية، وفى منطقة السدود بجنوب السودان، ولكن بسبب الحرب الأهلية هناك، اتجه إلى الخرطوم، ونجح في إقامة مدرسة علمية كبيرة في دراسات البيئة بجامعة الخرطوم، امتدت آثارها لتشمل عدة دول أخرى في المنطقة.
لم يكن لقب «مهندس الصحراء» هو اللقب الوحيد الذى اقترن بالدكتور عبدالفتاح القصاص، وإنما صاحبته عدة ألقاب طوال مسيرته العلمية، مثل عميد علماء البيئة، وأبو البيئة في مصر والعالم العربي، وقد تجاوز الوطن العربي إلى العالمية في تقليد المناصب، فهو زميل الأكاديمية الوطنية الهندية للعلوم، وعضو الأكاديمية الدولية للعلوم والآداب، ونائب رئيس اللجنة الدولية لشؤون البيئة (1973-1978)، وتقلد كذلك منصب رئيس الاتحاد الدولي لصون الطبيعة (1978-1984)، ومنصب نائب رئيس الصندوق العالمي لحماية الحياة البرية (1980-1984) وغيرها من المناصب والألقاب التي نادرا ما يحصل عليها عالم معاصر.
وندعو المجتمع العملي العربي بصفة عامة، والمصري بصفة خاصة للمشاركة في تكريم ذكرى هذا العالم الكبير، والتعرف على إنجازاته التي أفادت البشرية جمعاء.
ختامًا، رحلة عطاء أ.د. محمد عبد الفتاح القصاص تُلهمنا جميعًا للسعي وراء العلم والمعرفة، وحماية البيئة من أجل مستقبلٍ أفضل للأجيال القادمة.
فَلْنُكرم ذكراه ونُخلّد إنجازاته، ونُواصل مسيرته في بناء مستقبلٍ أخضرٍ ومُزدهر.
د. طارق قابيل
*كاتب ومترجم ومحرر علمي، أكاديمي، عضو هيئة التدريس -قسم التقنية الحيوية – كلية العلوم – جامعة القاهرة، مصر / مقرر لجنة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية والدراسات الاستراتيجية ومؤشرات العلوم والتكنولوجي، وزميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر / عضو المجموعة الاستشارية العربية للعلوم والتكنولوجيا، التابعة للمكتب الإقليمي للأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث للدول العربية.
http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel
[email protected]
المصادر:
Ead, H., Kapiel, T. (2021). ‘Mohamed Abdel Fattah Al-Kassas: The Founding Father of Egypt’s Ecology’, Egyptian Journal of Botany, Vol. 61, No. 3, pp. 673 -680. https://doi.org/10.21608/ejbo.2021.90393.1760
Ead, H., Kapiel, T. (2022). This to dedicate the 100th anniversary of the birth of Prof. Mohamed Abdel Fattah El-Kassas: “The father of Egypt’s Environment”, Journal of Advanced Research, Volume 35, Pages v-vi, https://doi.org/10.1016/S2090-1232(21)00256-3.
د. طارق قابيل. الذكرى المئوية لميلاد رائد الحركة البيئية في مصر. منظمة المجتمع العلمي العربي. 10/7/2021م
https://arsco.org/article-detail-31946-8-0
د. طارق قابيل: محمد القصاص رائد العلوم البيئية في مصر والعالم العربي. موقع المستقبل الأخضر.