منى العلوي *
يحيي العالم بتاريخ 22 مايو من كل عام اليوم الدولي للتنوع البيولوجي الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2000. ويقصد بالتنوع تعدد ووفرة الكائنات الحية وجيناتها وأنظمتها البيئية. وفي هذا العام يحتفل العالم بالتنوع البيولوجي تحت شعار “نحن جزء من الحل”، والشعار جداً جميل لأنه عاماً وشاملاً حيث كلمة (نحن) تحمّل الجميع المسؤولية، كما أن الشعار يشير إلى أصل المشكلة حيث كنّا جميعا – افراد أو جهات – جزء منها، فالإخلال بالتوازن البيئي وإن عبثت فيه الصناعات أو غابت عنه القوانين، فإننا كأفراد نساهم فيه حين نكون مستهلكين غير واعين لخياراتنا وتأثيراتها، سواء بصرنا لأبعاد خياراتنا أم لم نبصرها.
وكثيراً ما تشير الاحصائيات المعنية بالتنوع البيولوجي بالنقص الحاصل في الأنواع بشكل عام أو تلك المهددة بالانقراض بشكل خاص، حيث انخفضت أعداد الكائنات بنسبة ٦٠٪ خلال الثلاثين سنة الماضية، وهذا ما نبصره وندركه، لكن، هل الإكثار في أحد الأنواع يشكل تهديداً للتنوع البيولوجي؟
نعم، بكل تأكيد، وهذا المقال يسلط الضوء على نموذج واحد في هذا الشأن غير واضح للعيان، فالعالم مخلوق بشكل موزون ودقيق وكل عنصر من عناصره الطبيعية مخلوقة بقدر معين وبصفات محددة، وإن أي اخلال بالنقص أو الزيادة أو بالصفات لأي عنصر يخل بالنظام الكوني بشكل عام. من الأمثلة الجلية في هذا الشأن التوسع الحاصل في انتاج اللحوم والالبان الذي أدى إلى خسائر فادحة في التنوع البيولوجي في العالم، حيث تستمر الصناعات القائمة في هذا القطاع على تدمير الغابات كالأمازون وغيرها لتحويلها لأراضي لزراعة العلف للماشية مثل فول الصويا والذرة وتهدد هذه المحاصيل أيضا الأمن المائي من جهة وتفاقم التغيير المناخي من جهة أخرى. وتبين إحصائية نشرها الصندوق العالمي للطبيعة بأن النظم الغذائية القائمة على اللحوم تسببت في فقدان ٦٠٪ من التنوع البيولوجي. صحيح أن نمو السكاني ساهم في تنامي الطلب على الصناعات القائمة على الثروة الحيوانية (الأبقار تحديدا) لكن التغيرات في العادات الغذائية والابتعاد عن التصنيع الأخلاقي عوامل أساسية ساقت الصناعات لمزيد من التصنيع ولمزيد من الإخلال بالبيئة.
وكشف تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة بأن انتاج العلف الحيواني يشكل ثلث محاصيل العالم! وفي الوقت الذي تستخدم فيه صناعة اللحوم والألبان 83٪ من الأراضي الزراعية فأنها تساهم فقط بنسبة 18٪ من السعرات الحرارية الغذائية لنظامنا الغذائي، ويتم استهلاك حوالي 10 إلى 100 كجم من النباتات لإنتاج 1 كجم فقط من المنتج الحيواني، فضلا عن كون حوالي نصف انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم يرجع سببه إلى هذه الصناعة وما يرتبط بها. كما يشير التقرير إلى أن تقليل الطلب على المنتجات الحيوانية يمكن أن يحقق أهدافاً متعددة، مثل الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والأمن الغذائي، وحماية التنوع البيولوجي.
إن النظرة الفاحصة والمبصرة تكشف لنا بأن الصناعات المتصلة بإنتاج اللحوم والألبان يتم فيها تهديد للتنوع البيولوجي بدء من إنهاك الأبقار بتلقيحها اصطناعيا كل عام للحفاظ على استمرارية إنتاجها من الحليب بشكل ثابت، كما لا تكاد العجول تتذوق حليب أمهاتها بل تعطى تركيبة حليب الصويا. أيضا، يتم تسمين الأبقار لإنتاج المزيد من اللحوم والحليب دون الاكتراث لمدى ملائمة تلك الأغذية لصحتها، فضلا عن إطعامها بالمضادات الحيوية المستمرة، وتزيد المضادات الحيوية من نسبة إنتاج الميثان في الماشية، مما يعني أن نفاياتها ستطلق غازات أكثر ضرراً للبيئة. وأضرار هذه الممارسات لا تقتصر على تلك الحيوانات، بل تمتد أثارها الوخيمة لتصل للإنسان، إذ أن تناوله لهذه اللحوم بما تحويه من الاستخدام المفرط للأدوية يؤدي إلى تطور البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية لديه، وكل ما سبق هي خروقات للفطرة الطبيعية والإنتاج الطبيعي للنوع.
ما تم ذكره ليس للدعوة إلى الامتناع عن أكل اللحوم أو التحول إلى نظام نباتي، وإنما للإحاطة بواقع غير بادٍ للعيان حول هذه الصناعة وما يروج لها من منظور تجاري بحت (business as usual)، وما يصاحب ذلك من ضخٍ إعلامي كبير يشجع على المزيد من الاستهلاك بما يوهم ارتباط الصحة والقوة بكثرة تناول اللحوم والحليب، إن ما سبق يدعونا لإعادة النظر والموازنة في نظامنا الغذائي بما هو أفضل لصحتنا وللبيئة معاً، خاصة في زمن تكثر فيه الأوبة والأمراض، إذ أكثر من ٢٠٠ مرض معدي مصدره حيوانات الماشية التي فاقمتها الصناعات بشكل مهول خلال العقود الماضية.
إننا جزء من الحل شعار يحمل في طياته نمط حياة مستدام يساهم في حفظ التنوع البيولوجي، لكنه يستلزم منّا تحسين علاقتنا بالطبيعة، بما يشمل تغييراً جاداً في أنظمتنا الغذائية لنكون اكثر استبصاراً في خياراتنا.
عضو برنامج المواطنة البيئية
مقال يستحق القراءة