عشرون ألف قتيل ضحايا الزلزال الذي ضرب اليابان والتسونامي الذي أعقبه، مع انهيار مئة ألف مبنى. خلال سنوات قليلة، ستعيد اليابان، بحيوية شعبها وقدراتها التكنولوجية، بناء ما تهدّم. والحزن على ضحايا الكارثة الإنسانية، الذي سيستمر لسنوات أطول، لا بد أن يتلاشى خلال جيل تلد فيه نساء اليابان عشرين ألف طفل. غير أن غيمة الإشعاع النووي من محطة فوكوشيما ستستمر في تلويث الهواء والتراب والماء والغذاء لقرون مديدة، بما تحمله من أمراض سرطانية وتشوهات خلقية تنتقل من جيل إلى جيل.
الكارثة الإشعاعية في اليابان أعادت طرح موضوع الطاقة النووية بقوة على مستوى العالم. فالصين وألمانيا والسويد علقت التراخيص لبناء مفاعلات جديدة. وفي الإمارات أعطت الهيئة الناظمة للطاقة النووية نفسها فترة سنة للبت في الترخيص لمحطة الكهرباء النووية التي تم التعاقد مع شركة كورية لبنائها. والاتحاد الأوروبي عقد اجتماعاً طارئاً لإعادة النظر في آلية التراخيص، بعدما كانت السنوات الأخيرة شهدت توجّهاً إلى التوسع في بناء المفاعلات النووية لإنتاج الكهرباء. وقد تم تسويقها على أنها استجابة لتحديات تغير المناخ، إذ لا تصدر عنها انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون. لكن لتغير المناخ آثاراً كارثية أيضاً على عمل المحطات النووية، إذ أدت موجات الحر في أوروبا سنة 2003 إلى اغلاق نصف المحطات النووية في فرنسا.
واللافت أن دولاً عربية كثيرة دخلت في السباق، بتخطيطها لإنشاء محطات نووية بعشرات بلايين الدولارات، بينها مصر والأردن والسعودية وقطر والكويت والإمارات. من حق هذه الدول النظر في استخدام تكنولوجيات الطاقة المتاحة، ومنها النووية، لتلبية حاجة شعوبها إلى التنمية.
ولكن قبل كارثة اليابان، طرحنا أسئلة حول أولوية الاستثمارات في الطاقة النووية لدول تمتلك أكبر مخزون نفطي في العالم، بينما عليها أن تستورد اليورانيوم والتكنولوجيا الجاهزة والفنيين لمحطاتها النووية، حتى أن التخصيب محلياً سيكون ممنوعاً عليها، إذ ستبيعها الدول صاحبة التكنولوجيا اليورانيوم مخصباً وجاهزاً للاستعمال.
ومع أن بعض هذه الدول بدأت تستثمر جدياً في تطوير تكنولوجيات الطاقة المتجددة مثل الشمس والرياح، إلا أن دولاً أخرى ركزت اهتمامها على الجانب النووي. والمفارقة أنه في حين يصرح بعض المفاوضين العرب في مؤتمرات تغير المناخ أن الطاقة المتجددة تهدد استخدام النفط، لم نسمع منها تحفظاً مماثلاً على منافسة الطاقة النووية، فيما الشمس متوافرة محلياً، كما الرياح، بينما اليورانيوم مستورد. حتى أن الأردن، الذي يمتلك ثروة طبيعية من اليورانيوم، يمنع عليه تخصيبه محلياً ويُطلب منه استيراده جاهزاً، مما أخّر البرنامج حتى الآن.
العرب يحتاجون بالطبع إلى إمدادات مضمونة ومأمونة من الطاقة، مع الاستجابة لمتطلبات تخفيض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون. لكن هذا ممكن أيضاً من خلال الاستخدام الأنظف للبترول والغاز، بخاصة من طريق تطوير تقنيات جمع الكربون وتخزينه، إلى جانب استثمار الشمس والرياح. وقد يكون الأهم من كل هذا تطوير وتطبيق برامج لكفاءة الطاقة، حيث يصل الهدر في بعض البلدان العربية إلى خمسين في المئة. فمن غير المقبول أن يكون التركيز على زيادة الإمدادات فقط، كأننا نعالج المدمن على المخدرات بتزويده بكميات أكبر منها. إدارة الطلب على الطاقة يجب أن تأتي قبل زيادة الإمدادات.
وإذا وجدت بعض الدول أن الطاقة النووية ضرورية لتنويع مصادرها وتلبية احتياجات التنمية والالتزام بمتطلبات تخفيض الانبعاثات، تبقى شروط الأمان والسلامة، التي لا يمكن الاستخفاف بها بعد حادثة فوكوشيما. فهل يحسب بائعو المحطات النووية، في دراسات الجدوى المغرية التي يقدمونها، الكلفة الحقيقية للتخلص من النفايات النووية بعد انتهاء عمر المحطات، أو كلفة مواجهة الكوارث؟
وإذا كانت هذه نتائج الكارثة التي حصلت في اليابان، وهي من أكثر الدول استعداداً لها، فعلينا الحيطة في دول لم تثبت قدرتها على مواجهة أحداث طبيعية اعتيادية، مثل غرق مدنها بالسيول عند أول هطول للمطر.
نجيب صعب
رئيس تحرير مجلة البيئة والتنمية
المصدر: جريدة الحياة