كان من المفترض أن أكون هذا الأسبوع في ترينيداد وتوباغو، للمشاركة في اجتماع لجنة استشارية للأمم المتحدة. وللذين لم يسمعوا قبلاً بهذا الاسم، فهذه الدولة، ترينيداد وتوباغو، التي يقل عدد سكانها عن مليوني نسمة، تقوم على مجموعة من الجزر في منطقة البحر الكاريبي مقابل فنزويلا. وإلى غناها بالنفط والغاز، فهي وجهة سياحية مرغوبة، لشواطئها الرملية والتنوّع الحيوي في غاباتها المطرية. أما الاجتماع فقد ألغته جائحة “كورونا”، واستُعيض عنه بمؤتمر على الإنترنت، ربط المشاركين الثلاثين بالصوت والصورة.
اللجنة المولجة بالإشراف على تقرير “توقعات البيئة العالمية” السابع تعقد اجتماعاً شهرياً عبر الإنترنت، وتلتقي وجهاً لوجه أربع مرّات في السنة. حين بدأ الاعداد لاجتماع الكاريبي قبل شهور، لم تكن جائحة “كورونا” ضربت بعد. وقد تبيّن أن الوصول إلى ترينيداد وتوباغو، إلا للمسافرين من منطقة الكاريبي والقارة الأميركية، يستغرق ستة أيام للذهاب والعودة، وذلك لحضور اجتماع مدّته يومان فقط. أما البصمة البيئية، خاصة الانبعاثات الكربونية، فتبلغ ثلاثة إلى أربعة أضعاف الرحلة إلى بلد يشكّل موقعاً متوسطاً للمشاركين ولا يقع على طرف الكرة الأرضية، عدا عن أن كلفة السفر تبلغ أضعافاً. لكن محاولات تغيير المكان اصطدمت بإصرار من المنظمين على توزيع الاجتماعات بعدالة على مناطق العالم المختلفة، وإن حصل هذا على حساب البيئة والميزانية المتضائلة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة.
فضلاً عن تغيير موقع الاجتماع وأسلوبه، كان لفيروس “كورونا” أثر على محتوى البحث أيضاً. فقد وجد المشاركون أنّ أي برنامج بيئي في السنوات المقبلة يجب أن يأخذ في الاعتبار العلاقة بين البيئة والصحّة، من تلوّث الماء والهواء، إلى التلاعب الجيني بالإنتاج النباتي والحيواني، إلى القضاء على الموائل الطبيعية للحياة البرّية. وإذا بقيت تقارير الأمم المتحدة تبحث في المواضيع العامة نفسها من دون ربطها مباشرة بالهموم والتحديات التي تواجه البشر، فإن منظماتها ستتحوَّل إلى ما يشبه مركبات فضائية تدور خارج جاذبية الأرض، ويتحول موظفوها إلى كائنات منفصلة عن الواقع، كأنما هي كائنات غريبة من كوكب آخر.
لم يقتصر أثر “كورونا” البيئي على اجتماع دولي صغير واحد من بين آلاف الاجتماعات الأخرى، بل تسبب في تأجيل قمة المناخ السادسة والعشرين، التي كانت بريطانيا تُعد لاستضافتها في غلاسكو في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، إلى سنة 2021. لكن هذا لا يعني أنه، في عصر “كورونا”، أصبح تغيُّر المناخ قضية مؤجّلة، بل على العكس: فإن هذه الجائحة التي تضرب العالم بلا هوادة ستفرض نفسها بمثابة صرخة للإيقاظ من السبات الدولي العميق تجاه التحديات البيئية، وإنذار لمحدودية قدرة الانسان على معاندة الطبيعة والتلاعب بتوازنها.
السؤال حول تداعيات تأجيل قمة المناخ قد يأتي معكوساً: أليس أكثر رحمة بالبيئة ورأفة بالمناخ أن يستمرّ النقاش الجدّي، المقرون بأفعال، عن طريق اجتماعات مصغّرة ومؤتمرات عبر الإنترنت، بدلاً من قمم ضخمة يحضرها عشرات الآلاف من جميع أصقاع الأرض، مع ما يتسبب به سفرهم من انبعاثات كربونية؟ وإذا كان لا بدّ من اجتماع دوليّ يحضره الجميع شخصياً، فلماذا لا يكون كل سنتين أو ثلاث، وبعدد أقل من المشاركين، بدل أن يُعقد سنوياً بحضور عشرات الآلاف؟ وهل يستحقّ التمسّك بالتوزيع الجغرافي العادل للاجتماعات أن ينتقل المشاركون إلى طرف العالم، من دون اعتبار حجم الانبعاثات وتكاليف السفر، ناهيك عن الوقت المهدور في المطارات والطائرات؟
جائحة “كورونا” تعطي العالم دروساً لن يمكن تجاهلها. وقد يكون الدرس الأبرز أن كلّ أسلحة العالم وأمواله لم تتمكن من وقف انتشار وباء نتج عن التلاعب بالطبيعة. صحيح أن الفيروس الجديد انتقل، كغيره من الفيروسات القاتلة، عن طريق الحيوان، غير أن المسؤولية تقع على الإنسان لتلاعبه غير المنضبط بعالم الحيوان. وهذا يعطي أهمية مضاعفة للحفاظ على التوازن الطبيعي وحماية البيئة. والأكيد أن صرف المليارات على البحث العلمي وحماية البيئة والرعاية الصحية كان أجدى من صرفها على برامج التسلُّح. فالفيروس القاتل ضرب القواعد العسكرية وحاملات الطائرات نفسها، ووقف كلّ السلاح عاجزاً عن مواجهته. وقد تفتح الجائحة الباب واسعاً في المستقبل على اعتماد الاجتماعات عبر الإنترنت، كوسيلة تخفف من أعباء السفر وتقلل من الانبعاثات. وعلى أهمية استمرار التواصل الإنساني المباشر، فقد تفرض دروس جائحة “كورونا” نمطاً جديداً في الاجتماعات الدولية، يقرِّبها أكثر من العمل المنتج ويحدُّ من الهدر.
ترُى هل تدفع الكارثة العالم إلى إعادة تحديد أولوياته، بوضع البيئة والصحة وحياة البشر فوق التفوّق العسكري والاقتصادي؟ أم يعود العالم إلى عاداته القديمة مع زوال الجائحة، ويغوص من جديد في سبات عميق في انتظار فيروس آخر بعد سنوات؟ نزوعي الشخصي هو نحو الافتراض الأول، مع حلمي بأن تطلق الصدمة نهضة بيئية وصحية تغيّر وجه العالم. لكن هذا يستدعي تحوُّلاً من أنماط الاقتصاد المتوحش إلى الاقتصاد الأخضر، وتبديلاً جذرياً في الأنماط الاستهلاكية، بما يعيد التوازن بين المنظومة الطبيعية والبشر.
نجيب صعب
مجلة البيئة والتنمية