أعلنت الرئاسة الإندونيسية خلال الصيف الماضي عن سعيها إلى إنشاء عاصمة جديدة للبلاد في جزيرة بورنيو، على بعد مئات الكيلومترات إلى الشمال الشرقي من جاكرتا. وتواجه العاصمة الحالية مجموعةً من المشاكل البيئية الحادة، مثل استنزاف مصادر المياه الجوفية والاكتظاظ السكاني وحصول تكهُّفات في طبقات التربة تجعل المدينة واحدةً من أسرع المدن غرقاً في العالم، حيث يهدد بحر جاوة بابتلاع 95 في المائة من مساحتها خلال العقود الثلاثة المقبلة.
يبدو نزوح الحكومات والسكان بعيداً عن السواحل ضرباً من الخيال، ولكن هذا الأمر يحصل الآن بشكل متسارع. ففي أوستراليا وكولومبيا وفيتنام، وفي عدد من مدن الولايات المتحدة مثل هيوستن ونيوجرسي، يسعى السكان لتوفير موطن بديل عن مساكنهم وعقاراتهم التي تغمرها مياه البحر تدريجياً.
لقد سمح التنافس المحموم على تطوير مجمّعات سكنية على طول السواحل في أكثر من مكان في العالم بالتوسع على أراض جديدة مهددة سلفاً بطغيان البحر. وما يجري حالياً هو أشبه بعرض تمهيدي لمشكلة حذرت الأمم المتحدة من تفاقمها في المستقبل، إذ قد تؤدي العواصف والفيضانات وحالات الجفاف إلى تشريد مليار شخص قبل حلول سنة 2050، إذا لم تتخذ الاحتياطات الوقائية سريعاً.
مخاطر لا يمكن تفاديها
يحتجز جليد القطبين أكثر من 70 في المائة من مياه كوكب الأرض العذبة. ومن المتوقع، إذا ذابت الطبقة الجليدية في غرينلاند، أن يرتفع منسوب البحار بمقدار 7.4 أمتار، وإذا ذاب جليد القطب الجنوبي أن يرتفع المنسوب بنحو 58.3 متراً، وسيؤدي ذوبان الأنهار الجليدية الجبلية إلى ارتفاع المنسوب بمقدار 0.4 متر.
في عالم متغيّر المناخ بفعل غازات الدفيئة الناتجة عن النشاط البشري، وفي سيناريو يحد من ارتفاع درجة حرارة الكوكب إلى أقل من درجتين مئويتين مقارنة بحرارة الأرض قبل بدء النهضة الصناعية، يشير التقرير الخاص حول المحيط والغلاف الجليدي الذي صدر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ في سبتمبر (أيلول) 2019 إلى أن ارتفاع منسوب سطح البحر سيتراوح ما بين 43 و84 سنتيمتراً في نهاية هذا القرن.
ويؤكد التقرير أن المدن المنخفضة والجزر الصغيرة ستتعرض بشكل متكرر إلى حوادث متطرفة تتصل بارتفاع منسوب سطح البحر في منتصف هذا القرن، على الرغم من أن خفض الانبعاثات سيحد إلى مدى بعيد من شدة هذه الحوادث، وإن كان لن يمنعها تماماً.
وتشمل التأثيرات المتوقعة لارتفاع منسوب سطح البحر على النظم الإيكولوجية الساحلية تقلص الموائل وفقدان التنوع الحيوي والهجرة ضمن المحيط المائي وإلى داخل عمق اليابسة. وسوف تزداد هذه الآثار في حال وجود أعمال مدنية تمنع انزياح الموائل الخاصة بنظم المستنقعات وأشجار المانغروف وتقلِّص من كمية الرواسب التي تصل إلى هذه النظم.
ويمثل ذوبان الجليد بحد ذاته مشكلةً بالغة الخطورة، حيث يعتمد نحو مليار شخص على الأنهار الجليدية الجبلية للحصول على المياه العذبة، خاصةً في آسيا. كما سيؤدي ذوبان الجليد القطبي والجليد في الجبال إلى تحرير الملوثات العضوية الثابتة وغيرها من المركبات الضارة التي كانت محتجزة خلال عشرات السنين الماضية. ومع ارتفاع منسوب سطح البحر، سيزداد تآكل الشواطئ وتزداد مخاطر الفيضانات الساحلية وتتسرب المياه المالحة إلى المصادر المائية، مما سيؤدي إلى أضرار بالغة تطال المناطق الحضرية والريفية.
ويتوقع تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ أن يزداد ضرر الفيضانات في المناطق الساحلية بمقدار مرتين إلى ثلاث مرات في نهاية هذا القرن في حال غياب أي إجراءات وقائية تلطّف من مخاطر ارتفاع منسوب سطح البحر. وفيما تساهم ترتيبات الحماية الساحلية المصممة بشكل جيد في التقليل بشكل فعال من الأضرار التي ستطال المناطق الحضرية وتلك ذات الكثافة السكانية العالية، سيتعذر غالباً توفير هذه الترتيبات في المناطق الريفية والفقيرة.
وعلى الرغم من أن ترتيبات الحماية من ارتفاع منسوب سطح البحر لن تحول دون وقوع الكوارث بشكل تام، فإن التقديرات تشير إلى أن كلفة توفيرها عالمياً قد تصل إلى مئات مليارات الدولارات سنوياً. وبينما تواجه المراكز الحضرية مزيداً من الأعباء تحت ضغط تغيُّر المناخ، لا يبدو واضحاً كيفية توفير الأموال لحماية مئات ملايين البشر ومصادر عيشهم من هجوم الأمواج.
السواحل العربية مهددة
في الولايات المتحدة، خلص تقدير أجراه مركز “تكامل المناخ” إلى أنه بحلول سنة 2040 ستكون المدن الساحلية الأميركية التي يزيد عدد سكانها عن 25 ألف نسمة بحاجة إلى بناء جدران بحرية لحمايتها من العواصف تبلغ كلفتها 42 مليار دولار على الأقل. وإذا تم توسيع امتداد هذه الجدران لتشمل أيضاً المجتمعات التي يقل عدد سكانها عن 25 ألف نسمة، ستبلغ الكلفة 400 مليار دولار، وهو مبلغ يقترب من كلفة إنشاء شبكة الطرق السريعة التي نفذّت على كامل الأراضي الأميركية خلال العقود الأربعة الماضية.
وبينما تمثل هذه التقديرات مؤشراً تقريبياً لإظهار حجم المشكلة، فهي لا تأخذ في الاعتبار الترتيبات الأخرى للتخفيف من مخاطر الفيضانات، بما في ذلك شراء المنازل المهددة من مالكيها وتعديل البنية التحتية، لاسيما شبكات صرف مياه الأمطار. كما تبين هذه التقديرات وجود فوارق كبيرة في التكاليف التي تستلزمها مشاريع التكيف مع مشكلة ارتفاع منسوب سطح البحر بين المدن الكبيرة الثرية والمجتمعات الريفية المحدودة الموارد.
وعلى المستوى العالمي، ترتفع الفوارق بين دول متقدمة تستطيع تمويل مشاريع التكيُّف مع تغيُّر المناخ ودول نامية “تواجه سلطاتها المحلية شحاً في مواردها، ويمثل تأمين هذه الموارد تحدياً سياسياً ومؤسساتياً حقيقياً”، وفقاً لدراسة أجراها البنك الدولي سنة 2013. قد وجدت الدراسة أن الخسائر العالمية نتيجة الفيضانات في 136 مدينة من كبرى المدن الساحلية حول العالم بلغت 6 مليارات دولار سنة 2005، وهي سترتفع إلى أكثر من 50 مليار دولار في السنة بحلول 2050 نتيجة التغيُّرات الاجتماعية والاقتصادية الواسعة التي ستشهدها هذه المدن. وإذا ما جرى لحظ تغيُّر المناخ، فإن هذه المدن ستكون بحاجة إلى ترقية نظم حمايتها من أمواج البحر لتتجنب خسائر تصل إلى أكثر من ترليون دولار في السنة.
وتظهر دراسة البنك الدولي الأثر الكبير الذي تحدثه إجراءات الحماية من الفيضانات في البلدان المتقدمة. ففي مدينة مثل العاصمة الهولندية أمستردام، لا تتجاوز الخسائر الناتجة عن الفيضانات الساحلية 3 ملايين دولار سنوياً، علماً أن أصولها المعرضة للفيضان تبلغ قيمتها 83 مليار دولار. أما في هو تشي منه، كبرى المدن الفيتنامية، فتبلغ الخسائر الناتجة عن الفيضانات 104 ملايين دولار سنوياً، في حين تصل قيمة أصولها المهددة إلى 19 مليار دولار. وما يصنع الفرق بين المدينتين هو إجراءات الحماية من ارتفاع مياه البحر التي تطبقها أمستردام وتعد الأفضل عالمياً. وتعتمد شركات هولندية على خبرتها ونجاحها محلياً في هذا المجال لتسويق خدماتها عالمياً في إقامة حواجز تحمي المدن الساحلية.
وتشير الدراسة إلى أن عدداً من المدن العربية ستواجه أكبر زيادة في نسبة الخسائر حتى سنة 2050 إذا لم تحسن إجراءات الحماية التي تطبقها حالياً. فمدينة الإسكندرية تأتي في طليعة المدن التي ستعرف زيادة كبيرة في الخسائر بنسبة 154 في المائة لتصل قيمتها في سنة 2050 إلى 504 ملايين دولار في السنة. أما خسائر بنغازي فستكون 22 مليون دولار، في حين تصل خسائر مدينة الجزائر إلى 9 ملايين دولار سنوياً.
وكانت دراسة أجراها لمصلحة “المنتدى العربي للبيئة والتنمية” مركز الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن الأميركية أظهرت أن ارتفاعاً في مستوى البحر مقداره متر واحد فقط سيؤثر بشكل مباشر على 44.500 كيلومتر مربع من الأراضي الساحلية العربية. والتأثيرات الأكثر خطراً لارتفاع مستوى البحر ستكون في مصر وتونس والمغرب والجزائر والكويت وقطر والبحرين والإمارات.
وبحسب الدراسة، ستشهد مصر أكبر التأثيرات على القطاع الزراعي في المنطقة، حيث أن ارتفاعاً بمقدار متر واحد سوف يعرض 12 في المائة من الأراضي الزراعية في البلاد للخطر. كما أن هذا الارتفاع سوف يؤثر مباشرةً على 3.2 في المائة من سكان البلدان العربية، بالمقارنة مع نسبة عالمية تبلغ نحو 1.28 في المائة.
التراجع المخطط نحو الداخل
هناك العديد من الخيارات لمواجهة ارتفاع منسوب مياه البحار، وهي تبدأ ببناء الجدران البحرية التي تحجز المياه خلفها، وإقامة الموانع الطبيعية كالكثبان الرملية. وقد طور المهندسون الهولنديون مادة اسمنتية يمكن اضافتها بسهولة الى الكثبان الرملية لزيادة مناعتها. كمايمكن رفع المنشآت والمباني عن مستوى الأرض وإجراء تعديلات على البنية التحتية، بما فيها شبكات المياه والكهرباء والطرقات. لكن الحل المتاح في بعض الحالات قد يكون انتقال المجتمعات إلى أماكن بعيدة عن خط الساحل.
ربما يكون خيار “التراجع المخطط” أصعب حل يمكن اعتماده، ولكنه بدأ يفرض نفسه في النقاشات العامة كأداة يمكن استخدامها للتكيُّف مع ارتفاع مستوى سطح البحر. ففي الولايات المتحدة، طالب المرشح الرئاسي عن الحزب الديموقراطي أندرو يانغ في بيان انتخابي بالاستعداد لـ “حتمية” ارتفاع منسوب سطح البحر، وهو وعد المجتمعات الساحلية بتوفير مبلغ 40 مليار دولار لمساعدة الناس على الانتقال إلى أراض مرتفعة أو رفع منسوب منازلهم، إلى جانب 30 مليار دولار أخرى لبناء الجدران البحرية وغيرها من أشكال الحماية من الأمواج.
تحظى فكرة انتقال المجتمعات باهتمام متزايد من الأكاديميين. وكان بحث نشرته مجلة “ساينس” قبل أشهر حول إشكالية التراجع المخطط خلص إلى أنه ما من شك في حاجة بعض المجتمعات للانتقال بعيداً عن مواطنها، لكن هذا الأمر يستلزم الإجابة عن تساؤلات محرجة، مثل “لماذا وأين ومتى وكيف” يحصل هذا التراجع.
عندما طرح المسؤولون في بلدة باسيفيكا في ولاية كاليفورنيا الأميركية الانتقال إلى الداخل كخيار أكثر جدوى مالياً من مواجهة المحيط عبر تطبيق إجراءات الحماية من ارتفاع منسوب البحر، شنّ مالكو المنازل حملة منظمة ضد المسؤولين. وبدلاً من التصويت على خيار التراجع المخطط، انتهى الأمر بطرح الثقة في رئيس البلدية وطرده من منصبه.
ليس من المستغرب، والحال هذه، ان تكون المحادثات حول الانزياح عن خط الساحل مؤطرة بعبارات الحرب. فالفكرة بحد ذاتها تمثل رفعاً للراية البيضاء في نهاية معركة صنعناها بأيدينا في مواجهة الطبيعة. الأسلم أن نتوقف أولاً عن تصوير علاقتنا بالكوكب على أنها حرب مستمرة، فالقضية ليست فوزاً أو خسارة، بل هي عملية تكيُّف مع ما يحصل حولنا، تأخذ على محمل الجد حجم المخاطر التي تهددنا.
عبد الهادي نجار
مجلة البيئة والتنمية