يشهد العالم يوماً بعد يوم تطورات متسارعة في المعركة من أجل مواجهة تغيُّر المناخ، فالتقدم التقني والتشريعات الطموحة تمهّد الطرق نحو مستقبل منخفض الكربون يعتمد على المصادر المتجددة والكفاءة في استهلاك الطاقة. وبعيداً عن قصص النجاح الكثيرة، تبقى هناك جوانب مظلمة لم تطلها بعد يد التغيير الأخضر، مثل صناعة مواد البناء.
يبلغ الإنتاج العالمي من الإسمنت حالياً نحو 4 مليارات طن سنوياً، من بينها 2.8 مليار طن إنتاج الصين وحدها، وهو مصدر لـ8% من انبعاثات الكربون العالمية. في حين يبلغ الإنتاج العالمي من الفولاذ نحو ملياري طن سنوياً، نصفها من إنتاج الصين، وهو أيضاً مصدر لـ8% من انبعاثات الكربون العالمية.
وفي حين تعد صناعتا الإسمنت والفولاذ العصب الأساسي لقطاع البناء، فإن بصمتهما الكربونية تعادل مجمل انبعاثات الكربون الناتجة عن جميع أوجه النشاط البشري في الولايات المتحدة، والتي تبلغ 16% من المجموع العالمي. وهناك انبعاثات إضافية من صناعات أخرى مرتبطة بالبناء، مثل صناعة الألمنيوم المسؤولة عن 1% من انبعاثات الكربون العالمية، وكذلك صناعة البلاستيك المستهلكة للطاقة والموارد.
تقنياً، يملك العالم اليوم التكنولوجيات اللازمة للحد من غازات الدفيئة المنبعثة عن أغلب القطاعات الخدمية والإنتاجية، مثل النقل والطاقة أو الصناعات الخفيفة والمتوسطة. ولكن تصبح التحديات صعبة عند توفير الطاقة النظيفة للصناعات الثقيلة، بما فيها تصنيع حديد الصلب والإسمنت ومواد البناء الأساسية.
المشكلة الكبرى في صناعتي الفولاذ والإسمنت أن إنتاجهما يتسبب في انبعاث كميات ضخمة من الكربون يصعب تجنبها. فصناعة الإسمنت تقوم أساساً على حرق الحجر الجيري بدرجة حرارة تصل إلى 1450 درجة مئوية، باستخدام الوقود الأحفوري (الفحم أو الديزل أو الغاز) حيث ينتج عن احتراق الحجر الجيري أوكسيد الكالسيوم وثاني أوكسيد الكربون. وتكون مساهمة الوقود الأحفوري في إنتاج ثاني أوكسيد الكربون بمقدار 40%، أما مساهمة الحجر الجيري فهي نحو 60%.
أما تصنيع الفولاذ فيعتمد على استخدام فرن صهر لاستخلاص الحديد من خاماته، وفرن أكسدة يحول الحديد إلى فولاذ. ويستخدم فحم الكوك والأوكسجين للوصول إلى حرارة الصهر، التي تتراوح بين 1100 و1700 درجة مئوية، مما يؤدي إلى تشكّل ثاني أوكسيد الكربون كمنتج ثانوي.
البحث عن حلول
أفضل الخيارات المتاحة حالياً للإقلال من انبعاثات الكربون في صناعة الفولاذ هي تدوير الخردة المعدنية عن طريق صهرها في فرن القوس الكهربائي. ويسهم تدوير الحديد في تخفيض الانبعاثات بمقدار الثلثين مقارنةً بالفولاذ المصنّع من المواد الخام، وتقل هذه الانبعاثات إذا جرى تأمين الطاقة لفرن القوس الكهربائي من مصادر متجددة.
يبدو هذا الخيار مثالياً، لكن الإشكالية الأساسية هي في تراجع جودة الفولاذ المنتج، بسبب الشوائب مثل النحاس. ولا تواجه صناعة البناء مشكلات مع فولاذ التسليح المصنّع من حديد معاد تدويره، لكن صناعة السيارات تفضل استخدام الحديد البكر. وللإقلال من الشوائب، يجب تحسين فرز المواد قبل تدويرها وإزالة الملوثات الطافية على صهارة الحديد.
من الخيارات المقترحة لجعل صناعة الصلب أكثر اخضراراً استخلاص الحديد من خاماته، باستخدام وقود الهيدروجين بديلاً عن فحم الكوك، كي يتحد الأوكسجين الموجود في خام الحديد مع الهيدروجين لتكوين الماء وتجنب إنتاج ثاني أوكسيد الكربون. وتختبر شركة سويدية هذه المقاربة من خلال مصنع تجريبي تقوم ببنائه حالياً لإنتاج صلب من دون بصمة كربونية، وفق تقديراتها.
ووفقاً للمؤشرات الحالية، تتوقع الشركة أن يرفع إنتاج الصلب بالاعتماد على وقود الهيدروجين الكلفة بمقدار 30% مقارنةً بطريقة الإنتاج التقليدية. وهذه الكلفة تعد باهظة على مصنّعي الفولاذ من دون دعم حكومي، خصوصاً إذا علمنا أن هذه الصناعة لا تحقق تلك الأرباح الكبيرة التي تتيح لها تغطية تكاليف التكنولوجيا الجديدة المنخفضة الكربون.
ولا يمكن حالياً اعتبار وقود الهيدروجين هو الحل السحري لانبعاثات الكربون، إذ إن أغلب الهيدروجين المنتج عالمياً يأتي من الوقود الأحفوري، مثل الغاز الطبيعي. وتعادل البصمة الكربونية لإنتاجه عالمياً انبعاثات بريطانيا وإندونيسيا مجتمعتين.
مع ذلك، يبقى الهيدروجين حلاً واعداً إذا تحسنت جدوى إنتاجه من الماء بالاعتماد على طاقة مولّدة من مصدر متجدد. وهذا الأمر قد لا يكون بعيد المنال، إذ أعلنت شركة «هيليوجين»، التي تمولها مؤسسة بيل غيتس، عن نجاحها في ابتكار منظومة ذكاء صناعي لترتيب مصفوفة هائلة من المرايا من أجل تركيز ضوء الشمس في نقطة واحدة للوصول إلى درجة تسخين تزيد على 1000 درجة مئوية.
وفيما تسمح درجة الحرارة التي حققتها شركة «هيليوجين» في ابتكار أفران شمسية تخفض انبعاث الكربون في بعض مراحل إنتاج مواد البناء، فإن الشركة تطمح للوصول إلى درجة حرارة تتجاوز 1500 درجة مئوية لتصنيع الفولاذ والإسمنت من خلال الاعتماد بشكل كامل على مصدر طاقة متجدد، كما تتيح هذه الحرارة تفكيك جزيئات الماء لإنتاج وقود الهيدروجين.
مع ذلك يبقى تحويل إنتاج الإسمنت إلى صناعة نظيفة تماماً أمراً شبه مستحيل، لأنها تعتمد في جوهرها على تحرير الكربون من الحجر الجيري. ولذلك يعمل الباحثون على حل هذه المعضلة من خلال وضع صيغة مختلفة لإنتاج الإسمنت لا تقوم على التركيبة الحالية المبتكرة خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر، أي الإسمنت البورتلاندي.
ويمكن تحقيق بعض الوفر في إطلاق الكربون باستخدام بدائل لمركبات الإسمنت الحالية، مثل الرماد المتطاير في محطات توليد الطاقة العاملة على الفحم أو مخلّفات أفران صهر الحديد. وتبقى هذه البدائل محدودة من حيث الكمية إذا ما قورنت بحجم الطلب العالمي على الإسمنت.
في بلجيكا، يختبر الباحثون مقاربة أكثر واقعية لخفض انبعاثات إنتاج الإسمنت التقليدي تقوم على بناء برج بارتفاع 50 متراً لالتقاط الكربون المنبعث قبل دخوله إلى الغلاف الجوي. ويتمثل الهدف من هذا المشروع، الممول جزئياً من المفوضية الأوروبية، في إيجاد تقنية جديدة تسمح بالحصول على تيار نقي من ثاني أوكسيد الكربون بعد فصله عن باقي الغازات العادمة.
ويعتقد الباحثون أن هذا الحل واعد من الناحية النظرية، إذا توجد أسواق محتملة لبيع ثاني أوكسيد الكربون لصناعات أخرى، مثل صناعة البلاستيك. ولكن احتجاز الكربون وتخزينه لا يزال تقنية ناشئة باهظة التكاليف، حيث يوجد في العالم حالياً 23 منشأة فقط تعتمد هذه التقنية، أغلبها في محطات معالجة الغاز الطبيعي، حيث يسهل التقاط الكربون. ولا تتجاوز كمية الكربون الملتقطة حالياً 0.1% من مجمل انبعاث الكربون العالمي الناتج عن الأنشطة البشرية.
الترشيد والاستدامة
إن جميع المقاربات لخفض الانبعاثات الناتجة عن صناعة الإسمنت والفولاذ تصطدم بحائط الكلفة الباهظة أو غياب الجدوى الفنية والمالية للبدائل الأنظف. في المقابل، يمكن تخفيض الآثار السلبية لمواد البناء، كأي منتج آخر، بترشيد استهلاكها وضمان استدامتها كلما كان ذلك ممكناً.
ويشير بعض التقديرات إلى إمكانية خفض الانبعاثات الناتجة عن الفولاذ والإسمنت بنسبة 30 إلى 50% بحلول سنة 2050 من خلال ابتكار تصاميم معمارية وإنشائية تستخدم كميات أقل من هذه المواد وتدوم لفترات أطول. ففي أولمبياد لندن 2012 على سبيل المثال، استخدمت الكابلات الفولاذية لحمل سقف خفيف الوزن خاص بمضمار لسباق الدراجات بدلاً من التصميم التقليدي الذي يعتمد الإطارات القوسية الفولاذية، والنتيجة كانت انخفاض استخدام الفولاذ بمقدار 27%.
وإلى جانب استخدام مواد البناء البديلة كالخشب والألياف الكربونية، يجب تطوير الممارسة الهندسية لضمان تنفيذ منشآت أكثر دقة في التصميم والتنفيذ، وتستلزم مواد بناء أقل وأخف من دون التأثير على عوامل الأمان وقابلية الاستثمار. وهنا يأتي دور الجامعات والمؤسسات المهنية الهندسية في إعداد جيل من المهندسين لا يكون همه فقط إنجاز تصاميم أجمل وأقل كلفة، وإنما أنسب للبيئة وأفضل في مواجهة تغيُّر المناخ.
عبد الهادي نجار
مجلة البيئة والتنمية