تذكّرت بحزن، وأنا أستمع إلى وزير البيئة والمياه السنغافوري ماساجوس ذو الكفلي محمد يعرض أعمال وزارته، خطب بعض وزراء البيئة العرب. ففي حين قدّم محمد عرضاً مفصلاً عن الانجازات الملموسة لوزارته في معالجة مشاكل إدارة الموارد ورعاية البيئة ومكافحة التلوث في هذه الجزيرة الصغيرة، يكاد كلام معظم الوزراء العرب يقتصر على التمنيات والعموميات وعدد الاجتماعات والتقارير، لا ما نتج عنها من أفعال على أرض الواقع. وتأكّدت أن تقدُّم الدول لا يأتي مصادفةً، بل هو نتيجة تراكمية لتخطيط صحيح وعمل متواصل للتنفيذ. وفي حين ما تزال وزارة البيئة في كثير من دولنا تقدَّم كجائزة ترضية ذات درجة أدنى لمن يستكثرون عليه وزارة أخرى، فهي تُعتبر في الدول المتقدمة وزارة أساسية لصنع المستقبل.
وكانت سنغافورة خصّصت 2018 سنة للعمل من أجل مكافحة تغيّر المناخ. وهي استضافت في هذه المناسبة الاجتماع الدوري للمؤلفين والخبراء المشاركين في إعداد تقرير وضع البيئة العالمي السادس، الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة للبيئة السنة المقبلة. ولم يكن في الإمكان اختيار موقع أفضل يتناسب مع موضوع الاجتماع، إذ وفّرت سنغافورة نموذجاً حيّاً عن إمكان مجابهة التحديات البيئية في ظروف طبيعية صعبة.
تبلغ مساحة سنغافورة 712 كيلومتراً مربعاً، أي إنها أصغر من لبنان بـ15 مرة، وهي حتى أصغر من البحرين، التي تُعتبر من أصغر الجزر – الدول في العالم. أما عدد سكان سنغافورة فيبلغ 5.6 ملايين نسمة، وهو 30 في المئة أكثر من لبنان و400 في المئة أكثر من البحرين. لكن هذه الكثافة السكانية المرتفعة لم تمنع الجزيرة، ذات الموارد الطبيعية المحدودة، من تحقيق بعض أعلى معدلات النموّ في العالم، بموازنة التقدم الاقتصادي مع رعاية البيئة وتوفير سبل حياة عزيزة للسكان. ولمن لا يعرف، فحصة الفرد من إجمالي الإنتاج القومي في سنغافورة تتجاوز 53 ألف دولار، وهي بين الأعلى في العالم. وهذا أعلى من جميع الدول العربية إلا واحدة، مع أن سنغافورة تفتقر إلى الموارد الطبيعية، لكن تعتمد على الصناعة المتطورة والخدمات.
تتميز سنغافورة، الدولة – المدينة، بتنظيم مديني فريد ومتطور. فهي مدينة في حديقة، لا تقتصر المساحات الخضراء فيها على المتنزهات الكبيرة، بل تمتد إلى جوانب الطرقات، التي تزيّنها الأشجار على امتداد 3500 كيلومتر. وقد احتلت سنغافورة المرتبة الثانية الأفضل عالمياً من حيث المساحة المغطاة بالأشجار، إذ وصلت النسبة فيها إلى نحو 30 في المئة. وقد سبقتها في هذا مدينة تامبا الأميركية فقط، بنسبة 36 في المئة.
نسبة قليلة من المياه العذبة تأتي من تحلية البحر. فمن أين تحصل هذه الجزيرة المحدودة الرقعة على المياه؟ يتم جمع كل نقطة مطر تسقط على الطرقات المعبدة والسطوح، وضخّها إلى خزانات طبيعية كبيرة مكشوفة. وإلى جانب البرامج الصارمة لمنع تلويث المياه، تتم معالجة كل مياه الصرف والمجارير، ويُعاد استخدامها بالكامل.
أما النفايات فيتم تدوير 57 في المئة منها، بينما يذهب 43 في المئة إلى محارق حديثة. وتم تخصيص جزيرة صغيرة لدفن رماد المحارق وبقايا التدوير بشكل مأمون، مع البدء بتنفيذ خطة لتقليل كمية المخلفات للوصول إلى “صفر نفايات” خلال عشرين سنة.
ويتفاجأ زائر سنغافورة بقلّة زحمة السير على الطرقات، في هذه الرقعة الصغيرة من الأرض الكثيفة بالسكان. لكن الجواب يأتي من شبكات النقل العام الفعّالة، التي تُغني معظم السكان عن استخدام سيارة خاصة، وبينهم رئيس وكالة البيئة الوطنية، الذي حضر إلى اجتماعنا في حافلة للنقل العام. كما أن تنظيم المدينة لحظ تقسيمها إلى متّحدات يجمع كلّ منها مرافق السكن والعمل والترفيه، بما يخفف الحاجة للانتقال مسافات بعيدة.
ولا تقتصر إدارة الموارد الطبيعية ورعاية البيئة على العقوبات الرادعة، بل هي تتضمن الحوافز للممارسات الجيدة. كما تدعمها برامج فعالة للبحث العلمي والتطوير، وضعت سنغافورة في مرتبة متقدمة عالمياً في مجال الأبحاث العلمية التطبيقية.
كلُّ هذه المبادرات والبرامج لم تكن لتحقّق أهدافها بلا سياسات رشيدة وأنظمة تعتمد الشفافية والمساءلة. ومن الشواهد على هذا أن سنغافورة احتلت موقعاً متقدماً جداً في “مؤشر الفساد العالمي”، إذ حلّت في المرتبة السادسة الأفضل بين 180 دولة، فجاءت مباشرة بعد سويسرا، وتفوقت على دول مثل السويد وكندا وهولندا وألمانيا.
ولأن التنمية في سنغافورة تعتمد التخطيط العلمي، فهي تدرك أن هناك حدوداً لما يمكن أن يصل إليه النموّ، ضمن موارد طبيعية محدودة. فالاستمرار في ردم البحر لاضافة مساحات جديدة من الأراضي لم يعد ممكناً، لعوائق طبيعية وأخرى سيادية ترتبط بالحقوق البحرية للدول المجاورة. والمساحات غير المبنية المتبقية على اليابسة ضرورية للحفاظ على رقعة خضراء وتأمين خزانات المياه العذبة. لذا تقوم الخطط المستقبلية على الحدّ من النمو العددي والتركيز على تعزيز رفاهية السكان.
هناك الكثير من الدروس المفيدة التي يستطيع العرب تعلّمها من سنغافورة، قد يكون أهمها الجمع بين الطموح والتخطيط والواقعية.
نجيب صعب – مجلة االبيئة والتنمية – عدد ابريل/نيسان 2018