إذا عدنا إلى الوراء نرى أن سياسة الطاقة والمناخ في العقد الأخير تثير مشاعر مختلطة لدينا. فقد كان التقدم نحو اقتصاد أكثر استدامة بطيئا بشكل مثير للاٍنتباه. لكن حصلت بعض التطورات الواعدة مؤخرا.
لفترة طويلة، كان من الصعب رؤية الضوء في نهاية النفق. وأدت الأزمة الاقتصادية العالمية وقطاع الوقود الأحفوري ذو النفوذ السياسي إلى إنكار عقود من البحث العلمي، وإعاقة التقدم التكنولوجي ومنع الانفراج الدبلوماسي. كما استمر ارتفاع الطلب على الوقود الأحفوري، وازداد التنافس على موارد الطاقة.
حتى بعد أن بدأ الاقتصاد العالمي يتعافى، وجهت الحكومات مواردها نحو مخططات مشبوهة وغير منسقة لدعم إنتاج واستهلاك الطاقة، بدلا من الاستثمارات الفعالة التي تهدف إلى قيادة التحول نحو نظم طاقية أكثر استدامة.
ففي أوروبا، نفذت البلدان فرادى قواعد متباينة بإمكانها أن تؤذي اقتصاداتها وتشوه المنافسة، بدلا من وضع مبادئ الدعم المشتركة. وكانت النتيجة عبئا ثقيلا على المستهلكين – وليس أي شيء آخر.
ولم يتم تنفيذ الالتزامات المتعلقة بتغير المناخ، مما أدى إلى تفاقم الوضع. ولم يحرز أي تقدم يذكر في تطوير البنية التحتية للطاقة التقليدية التي تربط بين الأسواق. في العلاقات الدولية، تم استخدام الطاقة كأداة لسياسات “فرق تسد”، “العصا والجزرة”، “ابتزاز أو خدعة”. وتواصلت احتكارات النفط والغاز لتصبح أكثر قوة. و بقي منخفض الكربون وقطاع الطاقة الغير مسيس حلما بعيد المنال بالنسبة للأغلبية الساحقة من البلدان.
على مدى السنوات الخمس الماضية، ظهر بصيص من الأمل. ففي الولايات المتحدة، قامت ثورة الغاز الصخري بتحويل الطاقة جيوسياسيا، واختفى اعتماد الولايات المتحدة على النفط والغاز الأجنبي بين عشية وضحاها. واتخذت دول الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولية القرارات التي ساعدت على معالجة “جزر الطاقة” (أسواق الطاقة المعزولة والغير فعالة)، في حين تم تقوية دور مصادر الطاقات المتجددة في توفير الطاقة. فقد أصبحت الصين – منذ فترة طويلة من أكبر المستوردين للنفط، والغاز والفحم في العالم ورائدة انبعاث الكربون – كما أصبحت أكبر منتج ومصدر للألواح الشمسية في العالم.
وقد ساهم كل ذلك في انخفاض أسعار مصادر الطاقة المتجددة. وأقر زعماء العالم على نحو متزايد أنه بعيدا عن تأثيره سلبا على اقتصاداتها ، فاٍن التخفيف من تغير المناخ يمكن أن يعزز النمو. وتوج هذا التقدم بالتوصل إلى الاتفاق العالمي الذي تم الشهر الماضي في مؤتمر المناخ الأممي في باريس. وعلى الرغم من هذا التقدم، لا يزال هناك عمل كثير يجب القيام به لدمج الطاقة المتجددة بشكل موثوق وفعال من حيث التكلفة في شبكات الطاقة ومنع أضرار يمكن أن تصدر عن تغير المناخ بصفة لا رجعة فيها.
و بالفعل، تعكس قصة ليتوانيا هذا التطور العالمي. منذ وقت قريب كانت منطقة بحر البلطيق تعتمد بصورة شبه كاملة على الوقود الأحفوري من موردين معينين. ولكننا تمكنا من الوصول بسرعة إلى مستوى حيث يمكننا اختيار المصدر والمورد لطاقتنا الخاصة. بل ويمكننا القيام بإنتاج الطاقة بأنفسنا. في ليتوانيا، تمثل مصادر الطاقة المتجددة الآن أكثر من نصف إجمالي إنتاج الكهرباء والحرارة. وقد تم تثبيت روابط حول الطاقة الجديدة مع بولندا والسويد لتحسين فعالية الطاقة المتجددة.
مثل بقية العالم، ينبغي علينا القيام بأكثر من ذلك. فعلى سبيل المثال، سنضاعف قدرة طاقة الرياح ونقوم بتوسيع تبادل الكتلة الحيوية لهذا العام.
على المدى الطويل، يجب علينا تحويل نظام الطاقة لدينا بشكل أساسي ومكثف. فنحن لا نستطيع أن نبني مستقبلنا على مركزية تقديم الوقود الأحفوري (حتى لو كانت رخيصة). ولا يمكننا الاعتماد على الطاقات المتجددة التي توفر الإمدادات الغير متناسقة وتتطلب الدعم. ولهذا السبب يجب أن نتخذ خطوات من شأنها تيسير توفير الطاقة أيضا.
بداية، يجب أن يكون استخدام البنية التحتية للطاقة متاحا بشكل كامل. ففي منطقة بحر البلطيق، قمنا فعلا بتعديل الإطار القانوني لنعكس أولوياتنا، وقمنا ببناء وصلات الطاقة والغاز المسال الطبيعي والمحطات، واستثمرنا في سوق الصكوك ذات الصلة، وقمنا بتأمين إمدادات الطاقة والتي بإمكاننا الاعتماد عليها. لكن بناء البنية التحتية ليست فقط سوى الخطوة الأولى. الآن يجب علينا التأكد من أنها ستخدم احتياجات ومصالح المستهلكين.
علاوة على ذلك، البحث والتطوير يهدفان إلى الحد من التكاليف وتحسين موثوقية الطاقة المتجددة وهذا أمر بالغ الأهمية. فيجب على الحكومات مضاعفة الاستثمار في مجال الطاقة، مع ضمان نفس فرص الحصول على التمويل للمقاولات المبتدئة في هذا المجال، كما هو الحال بالنسبة لشركات الاتصالات أو الأدوية مثلا.
هذه الأشياء ملحة جدا لأن المستهلكين لن يقبلوا السياسات الرامية إلى الحد من الانبعاثات، مثل فرض ضريبة على الكربون، إذا لم يكن لديهم بديل بأسعار معقولة. بعد كل هذا، لا أحد يتوقع حدوث انخفاض في الاستهلاك الكلي للطاقة. لكن مع الدعم السياسي لانتقال الطاقة النظيفة والتخفيف من تغير المناخ الذي أصبح أقوى من أي وقت مضى، حان الوقت المناسب لتنفيذ هذه السياسات.
في الواقع، ينبغي أن تكون الحكومات أكثر طموحا، وتقوم بتنفيذ القوانين الوطنية وخطط العمل التي تعالج المشكل الآن، بدلا من ركل أو ترك العلبة على الطريق للأجيال القادمة للتعامل معها. في حين أن الالتزامات الطوعية الواردة في اتفاق باريس مهمة، ما هو مطلوب حقا هو تعهدات ملزمة قانونيا (مبنية بطبيعة الحال على الحسابات العلمية والتصميم والمحاكاة). بهذه الطريقة لا يمكن للدول أو الصناعات أن تقرر ببساطة أنها فقيرة جدا أو صغيرة جدا، أو أكثر أهمية استراتيجيا ولا يمكنها القيام بما هو ضروري.
وقد أثبتت الإنسانية مرارا وتكرارا قدرتها على خلق المعجزات من التكنولوجيا. و لا شك أن زيادة الاستثمار في الطاقات المتجددة، مع التزام سياسي قوي، سيمكننا من إنشاء معجزة أخرى وفي وقت قريب جدا.
داليا غريباوسكايتي – رئيسة ليتوانيا
المصدر بروجيكت سنديكيت