تتفق عمليا جميع الأوساط العلمية على أن ضمان الإمدادات الغذائية الكافية للسكان الآخذ عددهم في الزيادة، والمتوقع أن يرتفع بنحو 2.4 مليار نسمة بحلول منتصف هذا القرن، سيتطلب جهدا شاقا. ونحن، في الواقع، لم ننجح في توفير ما يكفي من غذاء حتى لسكان العالم اليوم البالغ عددهم 7.3 مليار نسمة: إذ يبلغ عدد من يتضورن جوعا أو يعانون الجوع الآن قرابة 800 مليون شخص، بالإضافة إلى مليارين من الناس لا يحصلون على كفايتهم من المغذيات الدقيقية. ومع ذلك نفتقر إلى مثل هذا الإجماع حول كيفية مواجهة مشكلة الأمن الغذائي.
ينقسم الوسط العلمي بشأن هذه المشكلة إلي موقفين اثنين: الأول يتلخص في “محاولة إصلاح تفاصيل زراعية دقيقة”، ويتمثل الثاني في “إصلاح الأسس المجتمعية” (MSF). وبينما يدعم الموقف الأول أغلبية واضحة، يبدو الثاني أكثر إقناعا.
لا شك أن المعسكر الأول، معسكر إجراء إصلاحات زراعية، قد حدد طبيعة العديد من المشاكل المتعلقة بالنظم الحالية لإنتاج وتوزيع الغذاء، ومن شأن معالجة هذه المشاكل فعلا أن يفضي إلى تحسين الأمن الغذائي. فيمكن زيادة المحاصيل بتطوير أنواع المحاصيل المحسنة. ويجب استخدام المياه والأسمدة والمبيدات بقدر أكبر من الكفاءة. ومن شأن صيانة الغابات الاستوائية وغيرها من النظم البيئية الطبيعية نسبيا الحفاظ على خدمات الأنظمة البيئية الحساسة، وبشكل خاص، خصوبة التربة والتلقيح ومكافحة الآفات وتحسين المناخ. ويجب مقاومة الاتجاه نحو زيادة استهلاك اللحوم. وقد يفضي فرض تنظيم أشد صرامة في التعامل مع مصائد الأسماك وتلوث المحيطات إلى الحفاظ على ذخيرة البروتين البحري الضروري للعديد من الناس. ويجب أيضا الحد من الإهدار في عمليات إنتاج وتوزيع الغذاء، وتعليم الناس اختيار الأطعمة الأكثر استدامة والأفضل من حيث القيمة الغذائية.
ويدرك مؤيدو اتجاه إجراء إصلاحات زراعية أن تحقيق هذه الأهداف يتطلب من صانعي السياسة منح الأمن الغذائي أولوية سياسية ومالية فائقة لدعم البحوث والإجراءات اللازمة. وتقع مسئولية إطلاق برامج تهدف إلى توزيع الغذاء على نحو أكثر إنصافا على الحكومات أيضا.
بيد أن نهج إجراء إصلاحات زراعية غير مكتمل المعالم. ليس فقط لأن تنفيذ أهدافه قصيرة الأجل قد يكون أمرا بالغ الصعوبة دون أن يترافق مع المزيد من التغييرات الاجتماعية الجوهرية، وحتى لو تحققت هذه الأهداف، فربما تكون غير كافية على المدى المتوسط، وبالتأكيد لن تكون كافية على المدى الطويل.
ولمعرفة السبب دعونا نفترض أن أهداف إجراء إصلاحات زراعية قد تحققت تماما بحلول عام 2050. فتوفر المزيد من الغذاء، بفضل المحاصيل الزراعية الأعلى مردودا وبفضل تحسين عملية الحد من الإهدار في عمليات التخزين والتوزيع، ونجحت السياسيات البيئية المحسنة في الحفاظ على معظم غابات اليوم قائمة، وتم فرض مناطق حظر صيد أسماك على نطاق واسع، وأصبحت النظم البيئية أقوى شيئا فشيئا، مع تطور العديد من الشعاب المرجانية والطحالب بحيث تتمكن من الحياة في مياه أكثر دفئا وحمضية. وإذا أضفنا إلى كل هذا زيادة كبيرة في أعداد من ينتهجون أنظمة غذائية نباتية صِرفة، فسوف يبدو أن ارتفاع الحرارة على سطح الكوكب قد لا يتجاوز ثلاث درجات مئوية.
وكنتيجة لهذا، قد يتجنب العالم المجاعات في منتصف القرن. ولكن مع ارتفاع عدد سكان العالم من البشر إلى 9.7 مليار نسمة، ستظل مستويات الجوع وسوء التغذية متماثلة بنفس التناسب القائم اليوم حيث عدد سكان العالم 7.3 مليار نسمة. بعبارة أخرى، فحتى في ظل هذه التركيبة الاستثنائية وغير المحتملة من الإنجازات وحسن الحظ، سيظل مأزق الأمن الغذائي قائما.
والسبب بسيط: تعتمد مجتمعاتنا واقتصاداتنا على افتراض خاطئ بأن النمو المستمر أمر ممكن على ظهر كوكب محدود. ولضمان الأمن الغذائي للجميع على سطح الكوكب ــ ناهيك عن باقي حقوق الإنسان الأساسية ــ ينبغي لنا أن نعترف بمحدوديتنا من حيث العوامل الاجتماعية والبيولوجية على حد السواء، وأن نبذل كل الجهد اللازم لضمان ألا نتجاوز حدودنا هذه.
وبناء على هذه القناعة، يطالب نهج إصلاح الأسس المجتمعية الحكومات باتخاذ خطوات لتمكين المرأة في مجالات المجتمع كافة وضمان حصول كل النشيطين جنسيا على الوسائل الحديثة لتحديد النسل، مع تمتع النساء بحرية إجراء الإجهاض إذا كان هذا باختيارهن. وعلى الحكومات في ذات الوقت معالجة عدم المساواة في توزيع الثروة وبالتالي الغذاء، وخاصة من خلال الحد من احتكار الشركات.
وباستثناء خفض عدد سكان الكوكب لمستويات مستدامة فإن تدابير إصلاح الأسس المجتمعية هي الأمل الوحيد للعالم. بيد أن تنفيذها، في ظل الأحوال القائمة، لا يبدو ممكنا. فالولايات المتحدة، البلد الأكثر استهلاكا، تتحرك في الاتجاه المعاكس: حيث تكافح النساء للتمسك بحقوقهن الإنجابية، وحيث يشوب توزيع الثروة انحرافا متزايدا، وحيث تصبح الشركات شيئا فشيئا أكثرة قوة من ذي قبل.
وإذا استمر هذا الاتجاه في التطور، فسيشهد عام 2050 نظم حوكمة أقل قدرة على معالجة المشاكل الجوهرية الناجمة عن النمو السكاني والاستهلاكي الدائم أو سوء توزيع الثروة. وبينما تتدهور البيئة بسبب تغير المناخ، وتحول المركبات الكيميائية إلى أشكال أكثر سُمّية، وفقدان التنوع البيولوجي والافتقار لخدمات نظم البيئة، سوف لن يتسع وقت الناس ولا طاقاتهم لإنشاء إصلاحات الحوكمة الرامية إلى تخفيف وطأة عدم المساواة أو الحفاظ على البيئة. وكنتيجة لهذا، سوف يشعر من يملكون زمام السلطة بتضاؤل الضغط الواقع عليهم لوضع الأنظمة اللازمة لتوفير الغذاء لمن هم في أشد الحاجة إليه.
ويزخر النظام الاجتماعي-الفيزيائي الحيوي بأنظمة فرعية تواجه معضلة الدجاجة والبيضة (أيهما يأتي أولا). ونظرا لعدم وجود ثغرة واضحة واحدة ضعيفة في النظام يمكن عبرها إحداث التغيير، فيتعين على الحكومات أن تعالج مجموعة قضايا في وقت واحد. وتتضمن نقاط الانطلاق الرئيسية تطهير سياسات “المال الكبير”، وتبني نظام ضرائب تصاعدية يحد بشكل فعال من سقف دخول الأكثر ثراء، وضمان أن يتسلح صُناع السياسة بأساسيات الفهم العلمي، وتعزيز حقوق المرأة بما في ذلك حق الحصول على وسائل منع الحمل مجانا.
ومثلما يمكن أن تدعم القضايا الاجتماعية والبيئية بعضها بعضا، يمكن أن يحدث نفس الشيء مع الإجراءات الرامية إلى تعزيز الأسس الاجتماعية والبيئية. ويمكن فقط من خلال التركيز على هذه الأسس، وليس بمجرد إجراء عمليات ترقيع لتفاصيل إنتاج الغذاء، أن تعمل الروابط الجهازية الجوهرية لصالح الأجيال القادمة.
جون هارتي – بول إيرلش
بروجيكت سنديكيت