تُرى كيف ينبغي لنا أن نقيم الاتفاق الذي تم التوصل إليه في باريس هذا الشهر في إطار مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ؟ لقد انطلقت المناقشات على أشدها بمجرد الإعلان عن الاتفاق في الثاني عشر من ديسمبر/كانون الأول.
الواقع أن بعض أنصار حماية البيئة الحريصين أصيبوا بخيبة الأمل لأن الاتفاق لم يلزِم الأطراف بشكل حازم بالحد من ارتفاع درجات الحرارة نتيجة للانحباس الحراري العالمي بحيث لا تتجاوز درجة مئوية ونصف الدرجة أعلى من مستويات ما قبل الثورة الصناعية بحلول عام 2050.
ولكن مثل هذا الالتزام ما كان ليصبح معقولا. والواقع أن ما تم التوصل إليه في باريس أفضل، لأن المفاوضين كانوا قادرين على الاتفاق على خطوات عملية في الاتجاه الصحيح. فقد تعهدت الدول فرادى بالحد من انبعاثاتها الغازية في الأمد القريب، مع إيراد بنود تقضي بالرصد والمراجعة الدورية للأهداف. وهذا أفضل كثيراً من تحديد أهداف سامية للمستقبل البعيد بلا أسباب تُذكَر للاعتقاد بأن هذه الأهداف قد تتحقق. فالأمر المهم هو أن نبدأ.
ويُعَد الاتفاق جيدا، في أربعة جوانب مهمة، بالنسبة لأولئك الذين ينظرون إلى تغير المناخ العالمي باعتباره مشكلة مهمة ويريدون اتخاذ خطوات عملية وملائمة لعلاج هذه المشكلة.
فأولا، وهو الأمر الأكثر أهمية، كانت المشاركة شاملة، حيث قدمت 188 دولة التزامات فردية، أو ما يسمى “المساهمات المعتزمة المحددة على المستوى الوطني”. في الماضي، كانت الدول الغنية هي فقط التي نتوقع منها أن تعمل على خفض انبعاثاتها من الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي؛ وكانت البلدان النامية معفاة من هذا بشكل صريح في إطار اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ. ولكن هذا كان لابد أن يتغير، ويرجع هذا جزئياً إلى حقيقة مفادها أن البلدان النامية، وليس الاقتصادات المتقدمة، هذ التي تشهد التزايد الأسرع للانبعاثات. وعلاوة على ذلك، ما كانت دول مثل الولايات المتحدة لتوافق على الحد من انبعاثاتها إذا خشيت أن تنتقل الصناعات التي تطلق الكربون إلى البلدان النامية ببساطة.
وثانيا، يتضمن الاتفاق عملية تختص بتقييم ومراجعة الأهداف في المستقبل، فمن المقرر أن تقوم الأطراف كل خمس سنوات بمراجعة التقدم وتجديد الالتزامات. ومن الممكن تعديل الأهداف في ضوء تطورات المستقبل بحيث تصبح أقل أو أكثر قوة. (وربما أكثر إذا تأكدت تكهنات العلماء). ومن المقرر أن تبدأ المفاوضات بشأن تعديل المساهمات المعتزمة المحددة على المستوى الوطني في عام 2018، حتى برغم أن أول مجموعة من الأهداف من المقرر أن تصبح نافذة المفعول في عام 2020.
وثالثا، يتخذ اتفاق باريس خطوات نحو الشفافية في الرصد والإبلاغ والتحقق من تقدم البلاد. وبدءاً من عام 2023، ينبغي للبلدان أن ترفع التقارير كل خمس سنوات بشأن التزامها بأهداف الانبعاثات. ويتعين على الولايات المتحدة والدول الأوروبية أن تدفع الصين والهند إلى الموافقة على هذا. ولكن في غياب الشفافية تفقد المساهمات المعتزمة المحددة على المستوى الوطني مصداقيتها.
ورابعا، يتضمن الاتفاق آلياً لتسهيل الربط الدولي، بما في ذلك فتح المجال لسكان الدول الثرية لتمويل تخفيضات الانبعاثات في البلدان الفقيرة. وهو أمر بالغ الأهمية، لأن مساعدة دولة فقيرة مالياً لحملها على الامتناع عن بناء محطات جديدة لتوليد الطاقة تعمل بالفحم أقل تكلفة من إغلاق محطة قائمة في دولة غنية. وسوف يكون تحقيق المرحلة الأولى من المساهمات المعتزمة المحددة على المستوى الوطني بتكاليف منخفضة عاملاً بالغ الأهمية في تحديد مدى استعداد الدول لاتخاذ المزيد من الخطوات في فترات مقبلة.
إن تحقيق أهداف بيئية أكثر عدوانية، وخاصة الحد من الانحباس الحراري الكوكبي بحيث لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية أو خفض الانبعاثات المسببة للانحباس الحراري إلى مستوى الصِفر في النصف الثاني من هذا القرن، يُعَد أمراً مرغوباً بطبيعة الحال في ما يتصل بالحد من خطر سيناريوهات الكارثة. والواقع أن أول المساهمات المعتزمة المحددة على المستوى الوطني لا تقترب في حد ذاتها من مجرد الحد من الانحباس الحراري بما لا يتجاوز درجتين مئويتين (الهدف العالمي الذي تم الاتفاق عليها في كانكون عام 2010).
بيد أن الإعلان عن أهداف طموحة أمر يختلف تماماً عن تحقيق هذه الأهداف. ويكاد يكون خارج الموضوع أن نقول إن التكلفة الاقتصادية المترتبة على ملاحقة هدف الدرجة ونصف الدرجة المئوية ستكون باهظة. ففي كل الأحوال، لا يستطيع القادة أن يبذلوا تعهدات ذات مصداقية لخمس وثلاثين سنة في المستقبل. ولابد أن تكون الخطة ذات مصداقية إذا كان لها أن تؤثر على القرارات التجارية التي لا تُعَد ولا تُحصى التي تتخذ اليوم.
وربما يستاء قادة بعض الدول النامية لسبب آخر: ذلك أن مبلغ المائة مليار دولار الذي من المقرر أن تساهم به البلدان الغنية في التمويل لا يظهر في أي هيئة ملزمة قانوناً في الاتفاق. صحيح أن البلدان الغنية أقرت بمسؤوليتها الأخلاقية عن مساعدة الدويلات الصغيرة التي تتألف من جزر، على سبيل المثال، على التعامل مع “الخسائر والأضرار” الناجمة عن ارتفاع مستويات سطح البحر، ولكنها رفضت المطالبات بقبول المسؤولية القانونية رسميا.
كانت هذه نتيجة معقولة في موقف صعب. ذلك أن البلدان الغنية لا تستطيع إنكار حقيقة مفادها أن انبعاثاتها في الماضي أحدثت بالعالم ضرراً واضحا. ففي أي نظام قانوني محلي، من حق الكيان الذي غمرت أرضه المياه على سبيل المثال أن يطالب بالتعويض من الكيان الذي تسبب في إحداث ذلك الضرر. ولكن الدول ذات السيادة لا تعمل بنفس النظام. وقد بدا مبلغ المائة مليار دولار مثيراً للمشاكل دوما. وتخشى البلدان النامية أن تتقاعس الدول الغنية عن تسليم المال، على الأقل ليس نقدا؛ وهي محقة. وتخشى الدول الغنية أن تختفي مثل هذه “التعويضات” في جيوب النخب المحلية؛ وهي أيضاً محقة. لذا فمن الأفضل عدم بذل الوعود.
الواقع أن حجة الدول الفقيرة قوية. ذلك أن المواطن الأميركي العادي يظل يمثل عشرة أمثال الانبعاثات التي قد يكون المواطن العادي في الهند مسؤولاً عنها. ولا يجوز حرمان الهند من حقها في التنمية الاقتصادية. ولكن أفضل طريقة لمعالجة هذه المخاوف المتعلقة بالنزاهة والعدالة تتلخص في أهداف الانبعاثات المتفق عليها. ولابد أن تكون الجهود التي وعدت بها البلدان الأكثر ثراء ــ وهي كذلك بالفعل ــ أكبر من تلك التي تبذلها الدول الفقيرة. وكلما كانت الدولة أكثر ثراء، كلما كان التاريخ الذي يتعين عليها فيه أن تبلغ ذروة الانبعاثات قريبا. ولابد أن تكون أهداف خفض الانبعاثات نسبة إلى خط الأساس أكثر حدة كلما كانت الدولة المعنية أكثر ثراء. وفي ظل أهداف تأخذ في الاعتبار المراحل التي تمر بها البلدان الفقيرة من التنمية، فسوف يكون بوسعها أن تحصل على المال لتنفيذ تخفيضات إضافية بموجب آليات الربط الدولية.
في هذا السياق، بوسعنا أن نزعم أن اتفاق باريس يضمن العدالة والشفافية. وكان التوصل إلى هذا الاتفاق تحدياً كبيرا، وهناك المزيد من التحديات في انتظارنا. ولكن نجاح المفاوضين في التلاقي على خطة تفتح أبواب الأمل في تحقيق تقدم عملي يُعَد انتصاراً لا لبس فيه.
جيفري فرانكل
بروجيكت سنديكيت