تغير المناخ، الذي كان يعتبر قضية للمستقبل، انتقل الآن بثبات إلى الحاضر، ومن المتوقع إبرام اتفاقية بشأنه في كانون الأول (ديسمبر) في باريس. لم يعد السؤال هل سيتم التوصل إلى اتفاقية، وإنما ما سيكون شكل هذه الاتفاقية وما مدى قوتها. وبالمقارنة مع خيبة كوبنهاغن عام 2009، يبدو أن المفاوضات المقررة في باريس، مع أنها ما زالت خلافية أحياناً، هي على الطريق الصحيح نحو التوصل إلى اتفاق.
لقد قسم بروتوكول كيوتو العالم إلى أغنياء وفقراء، بحيث تسعى البلدان الغنية (الملحق 1) إلى تحقيق تخفيضات للانبعاثات، في حين لم تكن البلدان الفقيرة (غير المدرجة في الملحق 1) ملزمة باتخاذ اجراءات في هذا الشأن. ومنذ ذلك الوقت، بات واضحاً أن الانبعاثات الكربونية للبلدان السريعة النمو، مثل الصين والهند، تزداد بوتيرة قد تضاهي تخفيضات الانبعاثات التي تقوم بها البلدان المتقدمة. وفي الواقع، حلت الصين مكان الولايات المتحدة كأكبر منتج لانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون في العالم. ونتيجة لذلك، لم يتحقق أي تقدم لكبح الاحترار العالمي، وبات جلياً أن على جميع البلدان أن تساهم في الحل.
بالنسبة إلى الاتفاقية الجديدة، قدم نحو 170 بلداً، تمثل أكثر من 95 في المئة من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية، خطط عمل وطنية تتعلق بالمناخ وتعرف بالمساهمات المحددة وطنياً (INDC)، من سنة 2020 عندما تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ حتى سنة 2030. وسوف تشكل هذه المساهمات جوهر الاتفاقية النهائية.
المسودة الحالية للاتفاقية تزيد قليلاً عن 30 صفحة، بالمقارنة مع نحو 200 صفحة أعدها المفاوضون لمؤتمر كوبنهاغن. وبوجود أكثر من 1000 قوس () في النص، ومسودة “قرار” مستقلة، بقي أكثر من 30 قضية أساسية من دون حل. وسوف أسلط الضوء على خمس قضايا خلافية رئيسية:
أولاً، الهدف العالمي على المدى الطويل: في كانكون عام 2010، اتفق المجتمع الدولي على أن ارتفاع درجة الحرارة حتى نهاية القرن يجب أن يبقى أدنى من درجتين مئويتين. وبما أن تغير المناخ هو مشكلة طويلة الأجل، فلا يمكن التصدي له بنجاح من خلال أعمال تطوعية قصيرة الأجل. تتضمن مسودة الاتفاقية عدداً من الاقتراحات المتعلقة بهدف تخفيفي طويل الأجل يراوح من “إزالة الكربون” في الاقتصاد العالمي مع نهاية القرن الحالي إلى اعتماد طاقة متجددة 100 في المئة بحلول سنة 2050.
ثانياً، وضع سعر للكربون: تسعير الكربون ركيزة أساسية للانتقال إلى اقتصاد مرن مناخياً ومنخفض الكربون أو خال تماماً من الكربون. وهو سيخلق حوافز للتوفير في الطاقة، ويعزز تحولاً إلى استثمارات أكثر اخضراراً. كما أن التخلي عن الدعم غير الموزون لأسعار الطاقة والوقود سيعطي ثقة وقدرة على التخطيط الواعي لاستثمار طويل الأجل في تنمية صديقة للمناخ. وهناك حالياً سياسات لتسعير الكربون في نحو 40 بلداً، منها الصين، وفي 23 مدينة وولاية ومنطقة.
ثالثاً، المراقبة والمراجعة والتقييم: هناك عنصر حاسم في التنفيذ الفعال لاتفاقية مناخية هو إطار عمل مستقل وشفاف لتتبع التقدم في تنفيذ المساهمات المحددة وطنياً لتخفيض الانبعاثات، فضلاً عن التعهدات المالية. لقد اعترضت البلدان النامية، بقيادة الصين، على آلية رسمية مستقلة لمراقبة ومراجعة تنفيذ الخطط الوطنية والتقدم في تحقيق الأهداف الطويلة الأجل. لكن في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 أعلنت الصين أنها تقبل مراجعات على مدى خمس سنين للتقدم الشامل نحو أهداف متفق عليها ولاجراءات معززة مطلوبة.
رابعاً، تمويل المناخ: التمويل هو القضية الأكثر إثارة للجدل في اتفاقية باريس. فالبلدان النامية تريد صيغة تحدد بكلمات واضحة مسؤولية البلدان المتقدمة في تحقيق هدف المئة بليون دولار بحلول سنة 2020. أما البلدان المتقدمة فاقترحت لغة تفتقر إلى التفاصيل مع تركيز أقل على مسؤولياتها. وفي هذه الأثناء، بلغت تعهدات البلدان المتقدمة لصندوق المناخ الأخضر أكثر قليلاً من 10 بلايين دولار. وتجدر الإشارة إلى أن ربع تخفيضات الانبعاثات التي اقترحتها بعض البلدان النامية مشروط بالحصول على تمويل وتكنولوجيا من البلدان المتقدمة.
خامساً، الخسائر والأضرار: قضية الخسائر والأضرار الناتجة عن تغير المناخ هي مثار جدل كبير أيضاً. فالبلدان الجزيرية الصغيرة وغيرها من البلدان السريعة التأثر، كما في أفريقيا جنوب الصحراء، تعاني حالياً من آثار سلبية ناتجة عن الأحوال الجوية القاسية التي يقول الخبراء إنها تسوء بفعل الانبعاثات الكربونية المتراكمة في الغلاف الجوي، وهي تريد نصاً في الاتفاقية يتيح لها المطالبة بتعويض.
هنا فكرة نهائية مطروحة للنقاش: في حين تبدو تعهدات وطنية كثيرة طموحة، فهي في مجملها تقل عما هو مطلوب لإبقاء الاحترار العالمي أدنى من درجتين مئويتين بحلول نهاية القرن. وقد صدر تقريران في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، أحدهما عن أمانة اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ والآخر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب). وكلاهما يبينان أنه إذا احترمت البلدان تعهداتها المتعلقة بالمساهمات المحددة وطنياً، احتراماً تاماً، فإن معدل درجات الحرارة سيرتفع رغم ذلك بأكثر من درجتين مئويتين، وتحديداً 2.7 درجة وفق أمانة الاتفاقية و3 درجات وفق “يونيب”. ومع ذلك، ستكون اتفاقية باريس خطوة رئيسية لتحقيق عمل جماعي بشأن تغير المناخ. وهذا بالتحديد ما يدعو إلى تضمين الاتفاقية مراجعة نتائج التنفيذ دورياً والتزام الدول بخطط جديدة لتخفيض الانبعاثات كل خمس سنين.
الدكتور محمد العشري
المصدر: مجلة البيئة والتنمية