على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، شهدت صناعة المياه المعبأة نمواً هائلا، ولا يُظهِر هذا النمو أي علامة تشير إلى التباطؤ. بل إن المياه المعبأة ــ بما في ذلك كل شيء من “مياه الينابيع المنقاة” إلى المياه المنكهة والمياه المضاف إليها الفيتامينات أو المعادن أو الشوارد الكهربية ــ تُعَد مجال النمو الأكبر على الإطلاق في صناعة المشروبات، حتى في المدن حيث مياه الصنبور آمنة وخاضعة لتنظيم صارم. وهي كارثة حلت على البيئة وفقراء العالم.
تبدأ مشاكل البيئة في وقت مبكر، بسبب الطريقة التي يتم بها استخراج الماء من المنشأ. فالقسم الأكبر من المياه المعبأة التي تباع في مختلف أنحاء العالم تُسحَب من احتياطيات المياه الجوفية المخزونة في طبقات صخرية تحت الأرض ومن الينابيع، وكثير منها يغذي الأنهار والبحيرات. واستغلال مثل هذه الاحتياطيات من الممكن أن يؤدي إلى تفاقم ظروف الجفاف.
ولكن تعبئة المياه السطحية الجارية من الأنهار الجليدية في جبال الألب، وجبال الأنديز، والقطب الشمالي، والشلالات، وجبال الهيملايا، وجبال باتاجونيا، وجبال روكي، وأماكن أخرى من العالم ليست أفضل كثيرا، وذلك لأنها تحول المياه بعيداً عن خدمة النظم البيئية مثل إعادة تزويد الأراضي الرطبة بالمياه والحفاظ على التنوع البيولوجي. ولم يمنع هذا شركات تعبئة المياه الكبرى وغيرها من المستثمرين من السعي بقوة إلى شراء حقوق استغلال مياه الأنهار الجليدية. على سبيل المثال، تستغل صناعة المياه المعدنية المزدهرة في الصين أنهار الجليد على جبال الهيملايا، فتلحق الضرر بالنظم البيئية في هذه العملية.
بيد أن قدراً كبيراً من المياه المعبأة اليوم لا تأتي من أنهار جليدية أو ينابيع طبيعية، بل هي مياه معالجة محلية المصدر أو مستخرجة بشكل مباشر في أكثر الأحيان من المياه الجوفية التي أخضعت للتناضح العكسي أو غير ذلك من أساليب التنقية. ومن غير المستغرب أن تتورط شركات التعبئة في نزاعات مع السلطات المحلية وجماعات المواطنين في العديد من الأماكن بسبب الدور الذي تلعبه في استنزاف المياه، بل وحتى تلويثها. ففي ولاية كاليفورنيا التي يسفعها الجفاف، واجهت بعض شركات تعبئة المياه احتجاجات وتحقيقات؛ بل إن إحدى الشركات منعت من استغلال مياه الينابيع.
والأسوأ من ذلك هو أن معالجة وتعبئة وشحن المياه عمليات عالية الاستهلاك للموارد. فتعبئة لتر واحد من المياه يتطلب في المتوسط 1.6 لتراً من الماء، الأمر الذي يجعل هذه الصناعة مستهلكاً رئيسياً للمياه ومنتجاً أساسياً للفضلات السائلة. وتضيف عمليات المعالجة والنقل بصمة كربونية كبيرة.
ولا تنتهي المشاكل بوصول المياه إلى المستهلك. ذلك أن الصناعة تعتمد في الأساس على قوارير تستخدم مرة واحدة ومصنوعة من مادة تريفثالات البولي إيثيلين، والتي تستخلص المواد الخام اللازمة لتصنيعها من النفط الخام والغاز الطبيعي. في تسعينيات القرن العشرين، كانت مادة تريفثالات البولي إيثيلين هي التي حولت المياه إلى منتج محمول وخفيف الوزن.
بيد أن هذه المادة لا تتحلل؛ ورغم إمكانية إعادة تدويرها فإن هذا لا يحدث عادة. ونتيجة لهذا فإن المياه المعبأة أصبحت الآن المصدر الأكبر على الإطلاق للنفايات البلاستيكية، حيث سجل حجم المياه المعبأة المباعة في العام الماضي زيادة بلغت 7% مقارنة بعام 2013، وعلاوة على ذلك يتحول 80% من قوارير المياه البلاستيكية إلى قمامة وتختنق بها مقالب النفايات.
بطبيعة الحال، من الممكن أن يعمل ارتفاع معدلات إعادة التدوير على تحسين هذا الوضع إلى حد كبير. على سبيل المثال، شجعت ألمانيا بنجاح إعادة التدوير بالاستعانة بمجموعة من القيود التنظيمية الذكية والحوافز، مثل الآلات في محلات السوبر ماركت التي ترد بعض أموال المشتريات في مقابل القوارير البلاستيكية (والتي يجلبها غالباً الفقراء). ولكن إعادة التدوير تستلزم حتى استخدام قدر أكبر من الموارد.
قد يزعم البعض أن الفوائد التي تعود على السلامة والصحة نتيجة لاستخدام المياه المعبأة تعوض عن هذه العواقب البيئية. ولكن هذه الفوائد ليست أكثر من حيلة تسويقية. فبرغم أن مياه الصنبور في الغرب ربما تتعرض لمشاكل تتعلق بالجودة من حين لآخر، فإن هذه هي حال المياه المعبأة أيضا. ذلك أن عملية الإنتاج في هذه الصناعة قد تتسبب أحياناً في تلويث المياه واضطرار الشركات إلى استرجاع منتجاتها بكميات ضخمة.
الواقع أن مياه الصنبور أكثر صحة من المياه المعبأة في الكثير من الأحيان. ذلك أن المعالجة الكيميائية تعني أن المياه المعبأة المعالجة ربما تفتقر إلى مادة الفلورايد، والتي توجد بشكل طبيعي في أغلب مستودعات المياه الجوفية أو تضاف بكميات صغيرة إلى إمدادات المياه البلدية لتعزيز صحة الأسنان.
وهناك أيضاً مخاوف صحية بشأن الترشح المحتمل للمركبات الكيميائية الداخلة في تصنيع مادة تريفثالات البولي إيثيلين، وأيضاً من حاويات البولي كربونات الكبيرة التي يعاد استخدامها والتي تستخدمها شركات المياه المعبأة لتوصيل المياه على المنازل والمكاتب. ومن المعروف أن ظروف التخزين غير المثالية ــ والتي تتضمن على سبيل المثال التعرض لفترة طويلة لأشعة الشمس والحرارة ــ من الممكن أن تتسبب في إحداث نشاط استروجيني قوي (الاستروجينات هرمونات أنثوية) في المياه المعبأة، وهو ما من شأنه أن يعرض المستهلك لمواد كيميائية قادرة على تغيير وظيفة جهاز الغدد الصماء من خلال محاكاة دور الهرمونات الطبيعية في الجسم.
من المؤكد أن هذه العواقب لا تمر دون أن ينتبه إليها أحد. ففي الولايات المتحدة، دفعت المخاوف البيئية بعض الجامعات فضلاً عن 18 متنزه وطني على الأقل إلى حظر بيع المياه المعبأة.
كما تدرك صناعة المياه المعبأة الخطر أيضا ــ وهي تبذل قصارى جهدها لإبقاء الرأي العام في صفها. ولتحقيق هذه الغاية، لجأت شركات تعبئة المياه الكبرى مثل نستله، وبيبسيكو، وكوكاكولا، إلى محاكاة شركات الطاقة العملاقة مثل إكسون موبيل، وبريتيش بتروليوم، وشِل، إلى طرح مبادرات “خضراء”.
ولكن لا ينبغي لنا أن نغفل عن حقيقة ثابتة: وهي أن المياه المعبأة تضاعف التحديات العالمية المرتبطة بالموارد والبيئة. فهي تزيد من صعوبة تسليم المياه الصالحة للشرب إلى فقراء العالم. وهي لا تقدم أية فوائد صحية أكثر من تلك التي تقدمها مياه الصنبور النظيفة. وهي أيضاً ليست أفضل مذاقا؛ بل إن اختبارات التذوق الأعمى تكشف أن الناس لا يمكنهم تمييز الفارق بين المياه المعبأة ومياه الصنبور.
من الواضح أن مياه الصنبور تحتاج إلى إصلاح صورتها بالكامل. ولكن من المؤسف أن الجهود في هذا المجال تفتقر إلى العضلات التسويقية والميزانيات الإعلانية التي مكنت النمو الهائل الذي حققته صناعة المياه المعبأة. عندما لا تكون الغَلَبة لمنتج أرخص وأفضل، فإن هذا يُعَد خبراً سيئاً بالنسبة للمستهلكين. وعندما يكون هذا المنتج هو المياه، فإن الخسارة تعم الجميع.
BRAHMA CHELLANEY
بروجيكت سينديكيت