أدى تراكم كميات كبيرة من غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي إلى حدوث تغيرات حادة في الأنظمة البيئية على كوكب الأرض، ولعل من أهم تلك الأنظمة التي طالها التغيير البيئة البحرية، إذ نجم عن ارتفاع تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي زيادة كبيرة في ذوبان هذا الغاز في محيطات وبحار العالم، مما أدى إلى ارتفاع ملحوظ في حموضة تلك المسطحات المائية.
وتبين الدراسات أنه منذ بداية الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر وحتى الآن ازدادت حموضة محيطات العالم بنسبة 30%، ومن المتوقع أن تتضاعف هذه النسبة بحلول عام 2100، إذ إن محيطات العالم قد امتصت حوالي ثلث كمية ثاني أكسيد الكربون التي أطلقها البشر في الهواء، مما يعرض الكائنات البحرية إلى مخاطر حقيقية تتهدد وجودها واستقرارها.
تحمض المياه
ينجم عن نشاطات الإنسان اليومية انبعاث لكميات هائلة من الغازات الضارة، كغاز ثاني أكسيد الكربون وأكاسيد الكبريت والنيتروجين، ومن أهم هذه النشاطات الصناعاتُ المختلفة القائمة على حرق الوقود الأحفوري ومحطات توليد الطاقة العاملة على الفحم الحجري والوقود الثقيل ووسائط النقل وغيرها، وهذه الغازات التي يتم إطلاقها في الغلاف الجوي، يذوب كثير منها في مياه الأمطار ومياه البحار والمحيطات، فغاز ثاني أكسيد الكربون يذوب في الماء ويتشكل حامض الكربونيك، الذي يتسبب في ارتفاع درجة حموضة المياه.
وقد لاحظ الباحثون -منذ مدة طويلة- تأثر كثير من الكائنات البحرية بظاهرة تحمض المحيطات، إذ تدهورت كثير من الأنظمة البحرية في كثير من المناطق في العالم بعد أن ارتفع تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بشكل كبير، حيث تجاوز تركيزه مؤخرا 400 جزء من المليون بعد أن كان في بداية الثورة الصناعية 280 جزءا من المليون.
“أكدت الشبكة العالمية لرصد الشعاب المرجانية التي هي موئل طبيعي لعدد كبير من الكائنات البحرية، أن خمسها في العالم قد فُقد، وأن نحو 35% منها معرض للزوال خلال السنوات القليلة القادمة”
كائنات في مواجهة الخطر
وأكدت الشبكة العالمية لرصد الشعاب المرجانية التي هي موئل طبيعي لعدد كبير من الكائنات البحرية، أن خمسها في العالم قد فُقد، وأن نحو 35% منها معرض للزوال خلال السنوات القليلة القادمة، حيث تتسبب ظاهرة تحمض المحيطات في ابيضاض الشعاب المرجانية نتيجة تفاعل حامض الكربونيك مع الكالسيوم المكون الرئيسي لهياكلها، مما يؤدي إلى إصابتها بالضعف والموت، وهذه الظاهرة تصيب بالإضافة للمرجان كثيرا من الكائنات البحرية، كبلح البحر ونجوم البحر التي يمكن أن تنقرض إذا بقي تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون مرتفعا في الغلاف الجوي.
وتبين كبيرة العلماء في مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية ليزا سواتوني أن العلماء حاليا يدركون أن تحمض المحيطات وارتفاع درجة حرارة المياه، سوف يتسببان قبل نهاية القرن الحالي في انقراض المرجان في العالم، وأنه لا بد من معرفة البلدان الأكثر تعرضا لهذا الخطر والتواصل معها منذ الآن.
وتؤثر ظاهرة تحمض المحيطات على عدد آخر من الكائنات البحرية المختلفة، حيث لوحظ أن ارتفاع حموضة المياه يتسبب في انخفاض واضح في قدرة إناث قنفذ البحر الأخضر على إنتاج البيض، كما أن صغار تلك الكائنات تتعرض للموت بنسبة كبيرة تبلغ عدة أضعاف النسبة الطبيعية.
كما تأثرت مزارع المحار في أميركا وغيرها من دول العالم بارتفاع حموضة المياه التي تعيش فيها، حيث انخفضت إنتاجية المزارع الموجودة في ولايتي واشنطن وأريغون الأميركيتين بنسبة بلغت 75%، وذلك بسبب ضخ مياه المحيط الحامضية في خزانات تربية المحار في تلك المزارع مما تسبب في نفوق أعداد كبيرة منها وخسائر مادية فادحة تكبدها مزارعو المحار، كما أثرت ظاهرة تحمض المحيطات على كائنات بحرية أخرى، كالجمبري، تناقصت أعدادها بشكل واضح خلال السنوات القليلة الماضية.
من جهة أخرى، فإن تأثير ظاهرة تحمض المحيطات يطال شبكات التغذية وكافة الأنظمة البحرية، فالعوالق النباتية سوف تتأثر بشكل مباشر، وهي مصدر غذائي لعدد من الكائنات البحرية، وهذا يزيد من تعقيد تأثيرات ظاهرة التحمض على مجمل الأنظمة البيئية البحرية في العالم.
“تتفاوت الأنظمة البيئية البحرية في مدى قدرتها على مواجهة ظاهرة تحمض المحيطات، فبعض تلك الأنظمة تتأقلم مع هذه الظاهرة وأخرى تنقرض وتفنى”
نحو فهم أفضل
تتفاوت الأنظمة البيئية البحرية في مدى قدرتها على مواجهة ظاهرة تحمض المحيطات، فبعض تلك الأنظمة تتأقلم مع هذه الظاهرة وأخرى تنقرض وتفنى، فهذه الظاهرة تحدث بالتزامن مع ارتفاع درجة حرارة المياه، وهذا بدوره يؤثر في حياة الكائنات الحية التي تعيش في المياه ضمن مدى محدد من درجات الحرارة.
وللوصول إلى معرفة دقيقة وشاملة لمدى تأثير ظاهرة التحمض للمحيطات على البيئة البحرية، ومدى تأثير ارتفاع درجة الحرارة أيضا، تم إنشاء الشبكة العالمية لرصد ومراقبة تحمض المحيطات في موناكو، بهدف التوصل إلى معرفة أكثر دقة بشأن مدى تأثر الأنظمة البيئة البحرية، ومن خلالها سيتم بناء معرفة دقيقة مبنية على الأبحاث العلمية التي تنجز ضمن مشاريع دولية لرصد ومراقبة تأثيرات هذه الظاهرة ومدى تأثر الكائنات البحرية والنباتات والبكتيريا وغيرها، وحماية الشعاب المرجانية والكائنات البحرية المختلفة من الخطر الداهم لزيادة حموضة المياه.
ولتسليط الضوء على أثر التغيرات المناخية على محيطات العالم، عقد بين 24 و26 فبراير/شباط 2014 مؤتمر القمة العالمية للمحيطات، حيث اجتمع 250 خبيرا في كاليفورنيا لمناقشة التحديات التي تواجه محيطات العالم، وما يمكن أن يفعله البشر لحماية البيئة البحرية، وخلال المؤتمر شارك عن بعد وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي أكد أن جميع دول العالم معنية بهذه الأزمة وينبغي عليها إيجاد البنية الأساسية العالمية المناسبة لعلاجها.
إن كافة المعلومات التي بحوزة الباحثين الآن تؤكد أن استمرار زيادة تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي ستكون له عواقب وخيمة على بيئة كوكب الأرض بشكل عام وعلى البيئة البحرية بوجه خاص، وأنه لا بد -وبشكل حتمي- من خفض تلك الانبعاثات الغازية الضارة للحد من ظاهرة تحمض المحيطات الخطيرة التي تتهدد حياة الكائنات البحرية الآن.
*المهندس أمجد قاسم
* كاتب علمي متخصص في هندسة تكنولوجيا الصناعات الكيميائية
المصدر : الجزيرة