إنه زمن «التحول في الطاقة». إستراتيجيات وسياسات تتبدل في العالم لتعود الى حيث كنا نحن منذ ما قبل اتباع الثورة الصناعية والتقنية الغربية، وقبل ان تحل علينا لعنة الاتكال شبه الكامل على الوقود الأحفوري (من فحم حجري وفيول ومازوت وبنزين وغاز…).
فبعد التزام دولة صناعية كبرى مثل المانيا بالتخلي عن الطاقة النووية كلياً العام 2022، والتعويض عن النقص المتوقع الذي كانت تؤمنه المفاعلات النووية بنسبة 30%، بالاتكال على الطاقات المتجددة، ما اعتبر قراراً تاريخياً سيؤدي الى تحوّل إستراتيجي في اتجاهات الطاقة العالمية… ها هي فرنسا تتقدم ايضا خطوة اضافية مهمة في الاتجاه نفسه.
فقد صوتت الهيئة العامة في البرلمان الفرنسي (في العاشر من الجاري) على مشروع قانون يخفض الاعتماد على الطاقة النووية في فرنسا من 75% الى 50% حتى العام 2025 وهو قرار تاريخي بالنسبة الى بلد مثل فرنسا، يعتبر الاول في العالم في نسبة اعتماده على الطاقة النووية لإنتاج الكهرباء (بنسبة 75%). ليس هذا وحسب، لا بل إن مشروع القانون ينص ايضا على خفض استهلاك الطاقة الى النصف حتى العام 2050 بالنسبة الى نسب الاستهلاك العام 2012، وقد اضاف بعض النواب في البرلمان اقتراحاً وسطياً بخفض الاستهلاك بنسبة 20% حتى العام 2030.
وزيرة البيئة (الايكولوجيا) الفرنسية وصفت هذا التحول بسقوط «التابو» في فرنسا. انه سقوط اسطورة الطاقة النووية الفرنسية التي كانت حتى الامس القريب من المحرمات والمقدسات التي لا تمس. مع الاشارة الى ان الرئيس الفرنسي كان قد تعهد في وقت سابق هذا العام بان لا يسمح بالاعتماد على الغاز والنفط الصخري كخيار في عهده، نظراً لكونه خياراً ملوثاً وغير مستدام، مع دعم الطاقات المتجددة كبديل.
والأهم من كل ذلك اعتماد سياسات محافظة في الطاقة، اي السياسات التي تعتمد على حفظ الطاقة والتخفيف من استهلاكها… هي السياسات التي كانت قد طرحتها الفلسفة البيئية المحافظة منذ سنوات ولم يتم تبنيها، والتي كانت تؤكد ان سياسات تخفيض الاستهلاك توفر إنشاء معامل إنتاج بغض النظر عن التقنيات المستخدمة ومصادر هذه الطاقة حتى ولو كانت نظيفة.
هذه الفلسفة المضادة لأفكار التقدم، لم يُسمع صوتها في السابق، في فترة الانبهار بأفكار التنمية وزيادة كل شيء، بما فيها زيادة الطلب على الطاقة، من اي مصدر كان، وخضوع السياسات للوبي الطاقة النووية من جهة والطاقة الأحفورية من جهة اخرى، بوصفها المصادر التي تؤمن الطاقة «الاكبر».
فما الذي تغير اليوم؟ هل تأتي هذه الإجراءات في فرنسا من ضمن سياسة الاتحاد الاوروبي لـ«التحول في الطاقة» والسعي للوصول الى نوع من «الاستقلال الطاقوي»، اذا صح التعبير، لا سيما في ظل الصراع مع روسيا، ام هو خيار فلسفي جديد فعلا ستكون له انعكاسات كونية في المستقبل غير البعيد، كما كانت لفلسفة النمو انعكاساتها؟ وهل تأخر العالم فعلا في العودة الى هذه الفلسفة؟ وكيف سيتلقف بلد مثل لبنان هذه الفلسفة وهو لا يزال مبهوراً بالافكار التنموية السابقة ويعد العدة للتنقيب عن النفط والغاز والاستسلام للوبي الشركات النفطية العالمية إياها التي ستغنم آخر مغانمها الوسخة والسوداء من بحرنا «الأبيض» (نسبياً) والتي لن تترك لنا إلا البقايا النفطية؟ وما الذي يمنع إعادة إحياء طاقاتنا المتجددة من قوة المياه (بعد ان كان يشكل الإنتاج الكهرومائي نسبة 79% من مجمل الطاقة العام 1969) وهواء وشمس وزيادة نسبتها ووضع سياسات لخفض الاستهلاك؟
حبيب معلوف
السفير