تلعب الطاقة في المنطقة العربية دورًا أساسيًّا في تشكيل اقتصادات ومجتمعات المنطقة؛ فترتبط صعودًا بنمو هوامش ربح تصدير الطاقة في الدول العربية الغنية بالبترول، ونزولًا بعَجْز الميزانيات المتصاعِد في الدول الفقيرة نسبيًّا في مجال الطاقة.
واليوم، تقف منظومة الطاقة العربية على أعتاب تحديات عملاقة مع النمو السكاني المتصاعد، وزيادة معدلات الاستهلاك. فإذا أخذنا المملكة العربية السعودية نموذجًا، فمع استمرار المعدلات الحالية، سوف تحقق المملكة في عام 2030 هامشًا ربحيًّا متضائلًا من عائد تصدير البترول، بسبب زيادة الاستهلاك، وزيادة عدد السكان إلى حدود الـ40 مليون نسمة؛ التي سوف تقلل بشدةٍ مِن نصيب الفرد من الطاقة، ومِن عائد تصديرها. ومن ناحية أخرى.. إذا نظرنا إلى مصر كمثال للدول الفقيرة نسبيًّا في مجال الطاقة؛ فسنرى عجز الطاقة المتزايِد يهدِّد بزيادة الحاجة إلى استيراد الطاقة؛ لتوفير متطلبات خطط التوسع العمراني خارج وادي النيل، وطُموح تشييد بِنْيَة تحتية صناعية.
لا بديل إذًا للمنطقة العربية عن تطوير منظومة الطاقة. ولِحُسْن الحظ، يمر العالَم بأَسْره بفترة تحوُّل كبرى في مجال الطاقة. هذا التحوُّل يصنعه ـ في الأساس ـ التقدم العلمي في التحكم في المادة على المستوى الجزيئي كيميائيًّا وبيولوجيًّا، بدلًا من التوازنات الجيواستراتيجية.
فمِن توليد الطاقة الشمسية بتقنيات جديدة ذات كفاءة أعلى وتكلفة أقل، مثل الخلايا الشمسية العضوية، وخلايا البيروبفسكايتس (perovskite)، إلى استغلال طاقة الكتلة الحيوية عبر ترسانة من التكنولوجيات الناتجة عن تطوُّر علوم الجينوم، وتطوير كائنات دقيقة أكثر كفاءةً في تحويل المخلَّفات الزراعية إلى طاقة، بالإضافة إلى تطوُّر علوم المحفزِّات لتحويل الكتلة الحيوية إلى منتجات محددة، مثل البلاستيك، والكيماويات الأساسية التي تُصنع اليوم من مشتقات الوقود الأحفوري.
أما بالنسبة إلى الطاقة المتجددة ـ التي تتميز بانتشار استخدامها في الشبكات الكهربائية، والسيارات الكهربائية ـ يطوِّر العلماء بعض المواد الجديدة التي تصلح كأقطاب للبطاريات، وبطاريات تَستخدِم معادن معينة، مثل الصوديوم، بديلًا عن الليثيوم عالي التكلفة، وحتى تقنيات مدهشة.. مثل بطارية المعدن السائل، وبطاريات سريان الحاملات الكيميائية للشحنة (redox flow)، ينطلق أغلبها من التصميم على مستوى الجزيء.
باختصار.. فكل جزء من منظومة الطاقة يخضع لتحوُّل عميق وسريع، يدفعه تقدُّم علمي في تصميم المادة على المستوى الجزيئي. كيف إذًا نلحق بالرَّكْب؟ لا بديل عن صنع بيئة متكاملة حاضنة لمكوِّنات ثورة الطاقة الحديثة.
المكوِّن الأول هو البحوث في مجالات الطاقة الحديثة، إذ ليس هناك انفصال بين البحوث الأساسية والتطبيقية، حيث يبدأ التصميم على المستوى الجزيئي. تحتاج تلك البحوث إلى مرافق بحثية متميزة، وكوادر عالية المهارة. لا تَنْقُص العالم العربي مؤسسات بحثية جديدة، إنما ينقصه ـ في الأساس ـ توفير الموارد؛ لجذب وتدريب كوادر علمية متميزة.
وعلى المستوى القومي، تملك غالبية الدول العربية إمّا التمويل، وإمّا الموارد البشرية. وبما أن التحديات متطابقة، والفُرَص واحدة، فلماذا لا يكون تمويل الأبحاث على مستوى العالم العربي على غرار البحوث في الاتحاد الأوروبي؟ هناك ضرورةٌ لوجود مؤسسة تضع الاستراتيجية وتموِّل الأبحاث في الطاقة على المستوى العربي، وليس القومي؛ لتسريع وتيرة التطور، عبر استغلال الموارد والمؤسسات الموجودة.
يجب أيضا ربط تمويل البحوث باستراتيجية تنطلق من الواقع العربي، وتركز على تحدياته المتفردة. وكمثال.. نصف استهلاك الكهرباء في المملكة العربية السعودية يذهب إلى التبريد؛ وبالتالي فالتركيز على تقنيات تبريد حديثة يكون أعلى عائدًا من التركيز ـ مثلًاـ على خلية شمسية جديدة.
وفي وجود استراتيجية رشيدة للأبحاث، يجب توفير التمويل لثلاثة أنواع أساسية من البحوث: بحوث أساسية ذات أفق بعيد، تدرِّب الكوادر اللازمة لباقي المنظومة، وتوفر باستمرار فهمًا أعمق للعلوم الحاكمة للتقنيات، وبحوث تطبيقية سريعة التأثير، مثل الهندسة العكسيةReverse Engineering لتقنيات يحتاج العالم العربي إلى توطينها، مثل صناعة البطاريات الحديثة، أو تصميم نظم الطاقة الحرارية الشمسية، ثم بحوث عالية المخاطرة وعالية التأثير، مثل تطوير تكنولوجيات تحلية مياه تعتمد على مواد جديدة، مثل الجرافين.
تشبه هذه التقسيمة كثيرًا بِنْيَة تمويل بحوث الطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تموِّل «مؤسسة العلوم الوطنية» NSF أغلب البحوث الأساسية، وتموِّل وزارة الطاقة DOE البحوث التطبيقية، وتركِّز برامج «وكالة مشروعات الأبحاث المتطورة – للطاقة» ARPA-E على البحوث عالية المخاطرة.
المكوِّن الثاني في تلك المنظومة هو الشركات الناشئة.. فحتى إنْ كانت المنطقة العربية قد قطعت شوطًا مهمًّا في هذا المضمار، فالشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا تختلف جذريًّا عن مثيلاتها في مجال الخدمات، وخصوصًا المعتمِدة على الإنترنت؛ والأخيرة تحتاج إلى عمالة على مستويات متنوعة من المهارة، وإلى تمويل صغير نسبيًّا، ووقت أقصر للنجاح أو الفشل. أما في مجال التقنية، فالعمالة على مستوى عال من التدريب، والتمويل ذو أفق أطول، والبيئة الداعِمة تتكون من مؤسسات بحثية ومكاتب استشارات متخصصة.
نحتاج إذَن إلى تصميم بيئة للشركات الناشئة المبنِيّة على التقنية حول المؤسسات البحثية، وتوفير التمويل اللازم، والإرادة اللازمة كذلك لدعم تلك المنظومة؛ حتى تصبح قادرة على صنع قيمة مضافة.
المكون الثالث هو الاستثمارات في التطبيق، عندما تصبح المخاطرة في نموذج العمل، وليست في تطوير التقنية.. فمثلًا، لم تنتشر الخلايا الشمسية في أمريكا على نطاق واسع، إلا بظهور الشركات القادرة على تحمُّل المخاطرة المالية في استثمار رأس المال، بدلًا من المستهلك. لذلك.. فعلى الصناديق السيادية العربية، والمؤسسات الاستثمارية أن تسرع من وتيرة نقل التقنيات إلى الأسواق، وتجعل العالم العربي المكان المفضَّل لمبدعي وعلماء الطاقة الراغبين في رؤية اختراعاتهم واقعًا.
هناك اليوم فرصة قلّما تتكرر.. وهي التكنولوجيات التي ستصنع منظومة الطاقة الحديثة قيد التطوير، وتعاني في موطنها نقصًا في الموارد المالية المخاطرة، والمجتمعات العربية تملك الموارد المالية والبشرية لتصبح الحاضنة، تنقصها فقط إرادة معلَنة، واستراتيجية واضحة، ومؤسسات رشيدة لصنع مستقبل الطاقة في القرن الواحد والعشرين. هناك باختصار فرصة نادرة، لنصنع وادي سيليكون عربيًّا للطاقة.
الكاتب: علي الطيب
مجلة نيتشر