أدى ارتفاع درجة حرارة الأرض منذ قيام الثورة الصناعية ولغاية الآن إلى إحداث تغيرات كبيرة في النظم البيئية والمناخية على سطح الأرض، ولعل تراجع مساحة الجليد المتراكم في القطب المتجمد الشمالي، والجفاف الذي يضرب كثيرا من بقاع العالم، خير دليل على مدى التغيرات التي تشهدها الأرض حاليا.
لقد حذر كثير من الدراسات المناخية من المخاطر الجمة التي يمكن أن تنشأ عن تزايد درجة حرارة الأرض نتيجة ظاهرة الانحباس الحراري، بسبب تراكم ملايين الأطنان من الغازات الصناعية في الغلاف الجوي، وما رافق ذلك من انحسار للجليد في القطب الشمالي وذوبانه وتشكل بحيرات من المياه، وزعزعة لاستقرار الرسوبيات العميقة لغاز الميثان التي تجمعت خلال حقب جيولوجية سابقة في تلك المنطقة، وفي عدد من المحيطات على شكل هيدرات غازية متجمدة تكونت بفعل انخفاض درجة الحرارة وارتفاع الضغط الواقع عليها.
تجمعات ضخمة من هيدرات الميثان
يعود تشكل هيدرات الميثان إلى عدة آلاف من السنوات، حيث تجمعت البقايا الحيوانية والنباتية في قيعان المحيطات، وهذه الرواسب تتركب أساسا من الكربون، وبسبب انخفاض درجة الحرارة في منطقة تلك الرواسب وارتفاع الضغط الواقع عليها، بقيت تلك المواد العضوية محتجزة بأمان سنوات طويلة نظرا لاستقرار الطبقة المحتجزة لهذه الرواسب.
وبفعل بعض أنواع البكتيريا، تتحلل تلك المواد العضوية المترسبة في المياه لا هوائيا ليتشكل غاز الميثان الذي يعرف بغاز المستنقعات، وهو غاز سريع الاشتعال ويعد من الغازات الدفيئة، ويتفوق على غاز ثاني أكسيد الكربون في قدرته على الانحباس الحراري بما يعادل 25 جُزيئا لكل جزء.
إن جزيئات الميثان عند تعرضها لحرارة منخفضة وضغط مرتفع في أعماق المياه، تحتجز في جزيئات الماء وتشكل مركبات تعرف باسم هيدرات الغاز، التي هي عبارة عن مواد بلورية صلبة تشبه الثلج وتملأ مسامات الرواسب في قيعان بعض المحيطات والمنطقة المتجمدة الشمالية. ولدى زيادة درجة حرارة المياه، فإن استقرار مركبات هيدرات الميثان يتزعزع، مما يؤدي إلى انطلاق غاز الميثان من قيعان تلك المحيطات ومن بحيرات المياه في المنطقة القطبية على شكل فقاعات غازية، لتجد طريقها إلى الغلاف الجوي، حيث تتسبب في زيادة كمية غازات الانحباس الحراري.
لقد تم اكتشاف مركبات الهيدرات في ثلاثينيات القرن الماضي عندما لاحظ جيولوجيو النفط وجود بلورات من الجليد تحتوي على غاز وتغلق أنابيب استخراج النفط والغاز الطبيعي. وبعد دراسة تلك البلورات، تبين أنها عبارة عن تجمعات لجليد تحتجز في داخلها جزيئات غازية، وهذه الجزيئات الغازية، يمكن أن تكون غاز الميثان أو كبريتيد الهيدروجين أو ثاني أكسيد الكربون.
الدراسات والمسوح الجيولوجية بينت وجود كميات كبيرة من هيدرات الميثان في كثير من أصقاع العالم تقدر بمليارات الأطنان، ففي الحافة الغربية لشمال الأطلسي تقدر كميات هذه المركبات بنحو 2.5 غيغا طن، وفي المنطقة المتجمدة الشمالية تقدر بنحو 950 بليون طن.
كما أن التقديرات الأولية تدل على أن ما بين 14 و25 مليون طن متري من الميثان ينطلق سنويا من بحيرات في القطب الشمالي للأرض، وأن كمية هيدرات الميثان على الأرض تقدر بنحو ثلاثة آلاف غيغا طن، وهذه الكميات الضخمة توجد -بالإضافة إلى المنطقة المتجمدة للأرض- في عدد من محيطات العالم التي يزيد عمقها على 500 متر، كالشواطئ المقابلة لليابان، وفي الساحل الشرقي والغربي للولايات المتحدة الأميركية، وفي شواطئ كندا ونيوزيلندا والمنحدر الشمالي لألاسكا وغيرها من الأماكن.
فقاعات الميثان تفاقم مشكلة الانحباس الحراري
يعد غاز الميثان ثالث غازات الانحباس الحراري من حيث وجوده في الغلاف الجوي للأرض بعد ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء، وقد شهدت الأرض خلال حقب زمنية سابقة تذبذبا واضحا في تركيزه، إلا أنه منذ قيام الثورة الصناعية ولغاية الآن ازداد تركيز هذا الغاز بنسبة بلغت 160%، حيث ارتفع تركيزه من 700 جزء لكل بليون منذ منتصف القرن الثامن عشر إلى نحو 1800 جزء لكل بليون في عام 2000، ويعزى الارتفاع الحاد في تركيز هذا الغاز إلى النشاطات البشرية المختلفة، كالزراعة والصناعة ودفن النفايات.
إن ارتفاع تركيز ثاني أكسيد الكربون خلال هذا القرن وتزايد درجة حرارة الأرض نتيجة ظاهرة الانحباس الحراري، جعلا مستودعات هيدرات الميثان تواجه خطر تحرر الميثان منها وانطلاقه نحو الغلاف الجوي، مما يهدد مناخ العالم بشكل خطير، إذ سيعمل ذلك على إضافة مزيد من غازات الانحباس الحراري إلى الغلاف الجوي للأرض.
وتبين الدراسات أن غاز الميثان يبقى في الغلاف الجوي عشر سنوات في المتوسط، حيث تتفاعل ذرة الكربون الموجودة في الميثان مع أكسجين الهواء الجوي الحر، ليتشكل غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يعد من غازات الانحباس الحراري.
وتدل توقعات نماذج المناخ العالمي التي أجرتها “اللجنة ما بين الحكومات حول المناخ”
(The Intergovernmental Panel On Climate Change) في عام 2007 على أن تزايد درجات الحرارة للأرض سوف يشهد ارتفاعا واضحا في مناطق خطوط العرض العليا يتراوح ما بين سبع وثماني درجات سلسيوس مع نهاية القرن الحالي، حيث يتوقع أن ينبعث خمسون بليون طن من الميثان من المنطقة المتجمدة الشمالية للأرض، وهذه الكمية الكبيرة تعادل عشرة أضعاف كمية الميثان الموجودة حاليا في الغلاف الجوي.
إن العلاقة بين ارتفاع حرارة كوكب الأرض وانطلاق الميثان من أعماق المحيطات ومن المنطقة المتجمدة الشمالية، يعد حاليا إحدى القضايا المناخية الأكثر إلحاحا، إذ إن النماذج المناخية تدل على أن استمرار وتيرة تزايد درجة حرارة الأرض، ستكون له عواقب وخيمة على كوكب الأرض، إذ سيعمل على تحرير الميثان المحتجز منذ آلاف السنوات من مكامنه العميقة، وهذا سيسرع من ارتفاع حرارة كوكب الأرض بشكل عام أكثر مما توقعته معظم الدراسات المناخية.
المهندس أمجد قاسم
الجزيرة