وجدت دراسة علمية حديثة أن أزمة المناخ العالمية قد أدت دوراً في الفيضانات غير المسبوقة التي اجتاحت باكستان في العام الحالي، مخلفة دماراً واسع النطاق لم تشهد البلاد له مثيلاً، أزهق أرواح ألف و400 من السكان وترك ما يربو على 33 مليون شخص يكابدون تأثيراته الوخيمة.
وفي مختلف الأنحاء صنفت الأمطار الغزيرة والفيضانات في هذا العام على أنها كارثة مناخية، إذ وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الدمار بأنه “مجزرة مناخية”، فيما حملت الحكومة الباكستانية الدول الغنية مسؤولية هذه الفوضى التي قاستها البلاد.
ولكن للمرة الأولى، ينهض علماء بدراسة علمية رمت إلى تقييم الدور الذي أداه الكوكب الذي ما برح يزداد احتراراً في نشوب هذه الفيضانات وشدتها.
البحث الصادر من “وورلد ويذر أتريبيوشن” World Weather Attribution (اختصاراً WWA)، علماً بأنها مبادرة تعنى بتحليل الأسباب الآنية وراء حوادث الطقس القاسية، يكشف عن أن أزمة المناخ قد تركت تأثيرها في فيضانات باكستان من طريق زيادة نسبة هطول الأمطار في المنطقة بين 50 و70 في المئة.
استخدمت الدراسة السريعة لإسناد الأحوال الجوية لتغير المناخ، التي اضطلع بها 26 باحثاً من 10 بلاد، نماذج حاسوبية علمية وبيانات تاريخية بغرض تحديد مدى احتمال أن يطرأ هذا الحدث المناخي البالغ الشدة لو أن درجة الحرارة في العالم لم ترتفع نحو 1.2 درجة مئوية منذ أواخر القرن التاسع عشر، وإلى أي مدى ستتكرر هذه الحال فيما درجة حرارة الكوكب مستمرة في الارتفاع.
استخدمت الدراسة مجموعتين من البيانات، اشتملت المجموعة الأولى على 60 يوماً من هطول الأمطار الغزيرة على المناطق المحيطة بنهر “السند”، أكبر أنهار باكستان، في يونيو (حزيران) وسبتمبر (أيلول) الماضيين. أما المجموعة الثانية فتتبعت فترة خمسة أيام من هطول الأمطار بغزارة في إقليمي السند وبلوشستان الجنوبيين، اللذين تعرضا لفيضانات غزيرة.
استخدم الباحثون مناهج منشورة وخاضعة لمراجعة علماء نظراء، ووجدوا أن تغير المناخ قد فاقم كثافة هطول الأمطار في فترة الأيام الخمسة في السند وبلوشستان بنسبة تصل إلى 75 في المئة، في حين أن فترة الرياح الموسمية التي استمرت 60 يوماً كانت أكثر شدة بنسبة 50 في المئة نتيجة ارتفاع درجة الحرارة.
كان وقع الفيضانات شديداً على إقليمي السند وبلوشستان الجنوبيين في الأسابيع القليلة الماضية، وشهدت أكثر أشهر أغسطس هطولاً للأمطار على الإطلاق. واستخدم المسؤولون مصطلحات من قبيل “أمطار موسمية متوحشة” و”أمطار موسمية هائلة” لوصف الأمطار غير المعتادة التي سقطت فوق المنطقة.
هذا الموسم، سجل الإقليمان سبعة وثمانية أضعاف على التوالي من إجمالي هطول الأمطار الشهري المعتاد. وقد تلقت باكستان ككل ما يزيد على ثلاثة أضعاف الأمطار التي تهطل فوقها عادة في أغسطس.
وجدت الدراسة أن ظواهر على هذه الشاكلة تطرأ مرة كل 100 عام، أو بعبارة أخرى تبلغ نسبة حدوثها واحداً في المئة سنوياً، نتيجة المستويات الحالية للاحترار العالمي.
وأشار التقرير إلى “أن الحدث المناخي عينه ربما يكون أقل احتمالاً في عالم نظيف من انبعاثات غازات الدفيئة الناجمة عن أنشطة الإنسان، مما يعني أن تغير المناخ قد جعل هطول الأمطار الغزيرة أكثر احتمالاً على الأرجح”.
ولكن الحال أنه من المتوقع أن يتخطى العالم الزيادة الحالية في درجات الحرارة البالغة 1.2 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، وذلك على رغم الجهود المبذولة للإبقاء عليها عند عتبة 1.5 درجة مئوية كما ينص في “اتفاق باريس” الدولي للمناخ، لذا يخشى أن هذه الحوادث المناخية ستكرر بوتيرة أكثر على الأرجح. وسيكون الوضع أشد سوءاً مع ارتفاع درجة الحرارة بمقدار درجتين مئويتين.
ولكن، أشارت “وورلد ويذر أتريبيوشن” إلى وجود بعض الشكوك في تقييم التأثير الذي طرحه تغير المناخ على فترة الرياح الموسمية الإجمالية بسبب نقص في البيانات وتباين كبير في هطول الأمطار في المنطقة.
تحدثت في هذا الشأن الدكتورة فريدريك أوتو، الرئيسة المشاركة في “وورلد ويذر أتريبيوشن” ومحاضرة أولى في علوم المناخ في “معهد غرانثام” لبحوث تغير المناخ والبيئة، فقالت إن أدلتنا تشير إلى أن تغير المناخ قد أدى دوراً مهماً في الحدث المناخي الذي قاسته باكستان، على رغم أن تحليلنا لا يسمح لنا بتحديد حجم الدور.
وذكرت الدكتورة أوتو أن “أوجه عدم اليقين في النماذج الحسابية” مردها إلى أن الطقس في المنطقة يختلف تماماً من عام إلى آخر، لذا فإن ملاحظة تغييرات طويلة الأجل في البيانات المرصودة والنماذج الافتراضية في شأن المناخ تبقى مهمة عسيرة”.
ومع ذلك، أضافت الدكتورة أوتو أن النتائج تتماشى مع التنبؤات المناخية التي كانت تتوقعها طوال سنوات.
“كذلك تتماشى النتائج مع سجلات تاريخية تبين أن هطول الأمطار الغزيرة قد ازداد بشكل مهول في المنطقة منذ أن بدأ البشر عبر أنشطتهم في إطلاق كميات كبيرة من غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي. ويظهر تحليلنا بوضوح أيضاً أن مزيداً من الاحترار سيجعل فترات هطول الأمطار الغزيرة أكثر حدة”، وفق الدكتورة أوتو.
ورأت أنه “فيما يبدو من الصعب تحديد رقم دقيق لمدى مساهمة تغير المناخ في هذه الحوادث المناخية، نجد أن بصمات الاحترار العالمي واضحة جداً”.
في الحقيقة، شدة هطول الأمطار في المنطقة مدفوعة بعدد من أنماط الطقس، من قبيل ظاهرة “لا نينيا”La Niña [تغير دوري غير منتظم في الرياح ودرجات الحرارة في المحيط الهادئ الاستوائي الشرقي، مؤثراً في المناخ في كثير من المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية]، ووصول منخفضات متعددة من خليج البنغال، مما يجعل باكستان معرضة بشدة لهطول أمطار غزيرة.
ولكن مع ذلك، معروف أن أزمة المناخ قد أسهمت أيضاً في التغيرات التي طرأت على التباين في أنظمة الطقس مثل أمطار الرياح الموسمية الشرقية والاضطرابات الجوية الغربية في المنطقة، علماً بأن علماء الأرصاد الجوية يشيرون إلى هذا الواقع منذ فترة.
كذلك وجدت دراسة “وورلد ويذر أتريبيوشن” علاقات بين الهطول غير المسبوق للأمطار وموجة الحر المتفاقمة، التي ارتفع احتمال حدوثها 30 مرة وفق بحث اضطلعت به المبادرة عينها ونشر في يونيو (حزيران) من العام الحالي. تذكيراً، يتحدث علماء ونشطاء في مجال المناخ عن هذه العلاقة منذ فترة طويلة، ذلك أن الهواء الساخن يحتجز كمية إضافية من الرطوبة.
تطرقت الدراسة أيضاً إلى مدى تأثير ذوبان الأنهار الجليدية في تضخم حجم الأنهار، وقد تفاقم ذلك نتيجة موجة حر قاتلة ضربت المنطقة في أبريل (نيسان) ومايو (أيار) حينما سجلت أجزاء من باكستان ارتفاعاً في درجات الحرارة بلغ 50 درجة مئوية. ولا ننسى أن باكستان تحتضن أكثر من سبعة آلاف نهر جليدي، أي أكثر من أي بلد خارج القطبين.
وللأسف، لا تتناقض نتائج الدراسة مع التقرير التقييمي السادس الذي أصدرته “الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ” (IPCC) الذي توقع هطول أمطار أكثر كثافة في جنوب آسيا في خضم ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض، مع العلم أن المنطقة تعتبر واحدة من أكثر المناطق عرضة للآثار المتفاقمة لأزمة المناخ.
وخلص البحث إلى أن عوامل عدة كانت وراء حجم الدمار المهول الذي لحق بالمنطقة. هكذا، فإن أوجه الضعف في البنية التحتية في باكستان، والكثافة السكانية العالية، ناهيك بمعدلات الفقر وعدم الاستقرار السياسي اللذين كانت لهما يد طولى في الضرر الكبير الذي عانته البلاد.
ويشير التقييم الأولي للحكومة الباكستانية إلى أن البلاد تكبدت خسائر تقدر بنحو 30 مليار دولار، فيما ستحتاج إلى سنوات قبل أن تنهض من هذه الكارثة. وفي الوقت نفسه، نزح ملايين الأشخاص من بيوتهم ومناطقهم أو تعرضوا لخسائر كبيرة.
إضافة إلى كل ما تقدم، تنوء البلاد أيضاً تحت ثقل أزمة صحية عامة، إذ تتفشى الأمراض المنقولة بالمياه بين الفئات الهشة من السكان، مما سيشكل وفق وكالات الإغاثة كارثة أكبر من الفيضانات نفسها. كذلك عزز الفيضان الدعوات إلى الدول الغنية لرصد أموال وتعويضات إضافية للدول الفقيرة في ما يتصل بأنشطة مكافحة تغير المناخ والتكيف معه.
ليس في باكستان فحسب، ففي ضوء الحوادث المناخية القاسية المتكررة في مختلف أنحاء العالم، ما انفكت الدعوات إلى تمويل الخسائر والأضرار الناجمة عن تغير المناخ تكتسب زخماً. والخسائر والأضرار مصطلح يستخدم في مفاوضات المناخ للإشارة إلى الأموال التي تدين بها الدول الغنية لنظيرتها الضعيفة التي ترزح تحت عبء تأثير أزمة المناخ.
ومع صدور الدراسة، قال فهد سعيد، الباحث في “مركز تغير المناخ والتنمية المستدامة”، في العاصمة الباكستانية إسلام آباد، إن “بصمات تغير المناخ في تفاقم موجة الحر في وقت سابق من العام الحالي، والفيضانات التي غمرت البلاد الآن، تقدم دليلاً قاطعاً على تعرض باكستان لمثل هذه الظواهر المتطرفة”.
“لما كانت باكستان ترأس (مجموعة الـ77) للدول النامية، على الدولة استخدام هذا الدليل في مؤتمر الأطراف للمناخ (كوب 27) من أجل دفع العالم إلى خفض انبعاثات غازات الدفيئة فوراً. وحري بباكستان أيضاً أن تطلب من الدول المتقدمة أن تتحمل المسؤولية، وتوفر الدعم للتكيف مع تغيرات المناخ ودفع تعويضات عن الخسائر والأضرار للبلدان والسكان الذين يتحملون وطأة تغير المناخ”، أضاف سعيد.
ولكن، على رغم الأدلة المتنامية التي تشير إلى أن أزمة المناخ تجعل من الطقس المتطرف أكثر تكراراً، فما زالت المشكلة موضع خلاف، ولم يتضح بعد كيف ستنجح “كوب 27″، قمة الأمم المتحدة المقبلة حول المناخ، في تحقيق أي توافق في الآراء.
© The Independent