على ما يبدو فإن زمن وفاق قوى الطبيعة مع الجنس البشري قد انقضي بلا رجعة، وعلى ما يبدو فإن الإنسان أصبح عدو محيطه، بل عدو نفسه الأول، وذلك بما اقترف من أفعال خاطئة وسلوكيات استهلاكية أقل ما توصف به أنها جائرة وتفوق قدرة أي نظام بيولوجي أو إيكولوجي على الاستمرارية وعلى التحمل.
ينجلي هذا بوضوح من ردة بعض نظم الأرض البيئية علينا، ومن انتشاء متسلسلة الزلازل والعواصف والأعاصير والفيضانات المدمرة من حالة المهادنة التي عقدتها معنا خلال الأزمنة الماضية، وينجلي أيضا من ترهل حالة كوكب الأرض، وإصابته بجملة من المشاكل والمخاطر البيئية المحدقة، ليس أقلها انتشار الأمراض والأوبئة الفتاكة والغامضة، وفقد التنوع الحيوي وانقراض الكائنات، وزيادة موجات الجفاف ودرجة التصحر.
فضلا عن تبدل أحوال المناخ وتنامي ظاهرة الاحتباس الحراري، صاحبة الفضل الأوحد فيما تعانيه المعمورة حاليا من سخونة غير معهودة، واتشاح وجه البشرية بكل معالم العرق والغرق والقلق.
بواعث التغير المناخي وتداعياته
من بين كل القضايا والمشاكل البيئية الثائرة تبقى قضية تغير المناخ، هي القضية الأكثر سخونة والأكثر إلحاحا على المجتمع الدولي حاليا، وذلك بما تفرضه من تأثيرات وتداعيات مستقبلية خطيرة، ليس أقلها جفاف بعض الأنهار وغرق أجزاء شاسعة من المناطق الساحلية، وتبدل خريطة مناطق الإنتاج الزراعي في العالم، وغير ذلك مما لا طاقة لنا به أو مقدرة.
والحقيقة أن ظاهرة الاحتباس الحراري هي الباعث الأكبر على ما يحدث من تغير مناخي، فالانبعاثات والغازات الصناعية الضارة التي ينفثها الإنسان بلا هوادة كل دقيقة، بل كل ثانية في محيطه، تتصاعد لتتركز في الغلاف الجوي مسببة ما يعرف بتأثير الصوبة الزجاجية وهي انحباس الحرارة في الحيز الجوي القريب من سطح الارض، ما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة هذا الحيز بشكل ملحوظ ومتنام.
وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة معدلات البخر، ومن ثم زيادة كميات السحب عن معدلاتها، وبالتالي تغير توزيع ونسب وتوقيتات سقوط الأمطار في العالم، كما يؤدي إلى تغيرات كبيرة في الضغط الجوي، ومن ثم تغير مسارات الرياح السائدة.
وهذا في مجمله يعني زيادة الجفاف والتصحر في مناطق محددة من العالم دون أخرى، ويعني نقص الموارد المائية ومياه الشرب في بعض المناطق ونماءها في مناطق أخرى.
كما يعني اختلال تركيبة المحاصيل الزراعية، وبالتالي تغير خريطة الإنتاج الغذائي العالمي، بل ليس بمستبعد في ظل هذا الوضع أن يتطور الأمر إلى حروب مسلحة ونزاعات إقليمية، نتيجة تزايد الصراع على موارد المياه، ونتيجة الخلافات التي ستفرضها الهجرات الجماعية الناشئة عن المجاعات والفيضانات وغيرها من الأزمات.
غير أن أخطر تأثيرات الاحترار العالمي تتمثل في ذوبان أجزاء شاسعة من الكتل الجليدية في القارة القطبية، وزيادة حجم الكتل المائية في المحيطات والبحار الداخلية، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع منسوب سطح البحر بشكل ملحوظ ومؤثر، وطغيان البحر بالتالي على أجزاء واسعة من اليابسة، فيما يشبه طوفانا ثانيا كبيرا، وإن بدا أن هناك فرصة سانحة للنجاة منه.
من التأثيرات الخطيرة أيضا التسبب في ضعف حركة التيارات الساحلية الدافئة في المحيطات وتغير مداها ومساراتها، وهذا بدوره سوف يجعل أوروبا الشمالية أكثر برودة، وسوف يتسبب في دمار مساحات متزايدة من الشعاب المرجانية والموائل البحرية الأخرى الحساسة المماثلة.
المؤسف والمحزن أن تداعيات التغير المناخي وآثاره سوف تكون أشد وأقسى على الفقراء وعلى البلاد الأكثر فقرا، وهذا لسبب بسيط، هو أنها الأقل استعدادا والأقل قدرة على مواجهة ومجابهة مخاطر وآثار تلك المشكلة الخطيرة.
المحزن أكثر أن التغير المناخي سيتسبب في فقد أشياء لن يكون بمقدرونا إرجاعها أو حتى تعويضها. ارتفاع مستوى البحر مثلا سوف يتسبب في اختفاء مساحات هائلة من غابات المانجروف الساحلية ومن الحيود المرجانية العالمية، وهي من أكثر الموائل البيولوجية إنتاجية ومن أكثرها نفعا للإنسانية.
كما سيتسبب في غرق أجزاء كبيرة من السواحل خاصة أمام الدلتاوات البحرية، التي تعد من أكثر المناطق خصوبة ومن أكثرها غنى بالمصايد السمكية، كما هو حال دلتا نهر النيل، ودلتا نهر الميكونج بالصين، ومنطقة شط العرب، وغيرها.
تغير المناخ بين الاستنفار العالمي والسبات العربي
اللافت أن الاهتمام العالمي بقضية التغير المناخي قد بلغ درجة عظيمة لم تبلغها سابقا أي قضية علمية مماثلة، ومن معالم ذلك، حمل مجلس الأمن الدولي على مناقشتها وبحث تداعياتها، وهو أمر جديد تماما على مجلس أممي معني أساسا ببحث النزاعات والصراعات الدولية، وهذا وحده يوضح مدى خطورة الأمر ومدى الاهتمام والاستنفار العالمي به.
الغريب أنه في ظل هذا الاهتمام العالمي، وفي ظل تزايد عدد المبادرات والحملات والجهود البيئية الصادرة يوميا من مختلف أرجاء الأرض، بغرض إنقاذ الموقف والتعامل معه، لم نسمع عن إجراء أو نشاط عربي جدي واحد، يذكر العالم بأننا معنيون بالأمر، سواء كان هذا على مستوى التخطيط الإستراتيجي أو التوعية العامة أو خلافه.
فعلى صعيد التخطيط الإستراتيجي لم تكلف أي حكومة عربية نفسها بوضع أي خطط مستقبلية سواء لمواجهة مخاطر التغير المناخي، أو لإعادة تخطيط استخدامات الأراضي الساحلية الحالية، بما يتناسب مع الواقع المستقبلي، وبما يتناسب أيضا مع متطلبات التنمية.
المنطقة العربية تزخر مثلا بما لا يقل عن 20 ألف كيلومتر من السواحل الممتدة، يقطن بالقرب منها وعلى مشارفها ما لا يقل عن ثلثي السكان العرب، ومع ذلك لا زالت هناك مشاريع حيوية بل ومنشآت إستراتيجية هامة، تقام عليها كل يوم، وهذا دون اعتبار حجم الخسارة الناتجة، إذا ما تعرضت هذه السواحل لخطر الغرق مستقبلا.
نفس الأمر ينطبق على مستقبل الإنتاج الزراعي في بلادنا، وعلى احتياجتنا من الموراد المائية، حيث لم تهتم غالبية دول المنطقة بإيجاد أو بتطوير بدائل زراعية مناسبة، ولا بالبحث عن سبل لتنمية مواردها المائية أو ترشيد استهلاكها المائي.
الأسوأ من هذا أن يعمد بعض المسؤولين العرب إلى التهميش والتهوين من الأمر بشكل فج ومبالغ فيه، تارة بحجة عدم إثارة البلبلة، وتارة أخرى بالادعاء بأننا مستهدفون وأن هناك مؤامرة!
مثال ذلك ما صرح به مسؤول كبير في الحكومة المصرية الحالية، وهو بالمناسبة عالم متخصص في المياه والري، في تعليق له على تصريحات وزيرة الخارجية البريطانية بتعرض نهر النيل للجفاف ودلتاه للغرق نتيجة التغير المناخي، بأن هذا التحذير له “مضمون سياسي” ولا يهدف سوى إلى “إثارة البلبلة” بين دول حوض النيل!
هذا على مستوى الإدارة وعلى مستوى التخطيط الإستراتيجي، أما على صعيد البحث العلمي وهو قطاع مهم للغاية في هذه القضية، فالأمر يثير حقيقة كثيرا من الحزن والشجن.
الداعي لهذا أن الدوريات العلمية العالمية تكاد تخلو، على مدار عقد أو أكثر من النشر العلمي، من بحث عربي واحد ممنهج ومتكامل عن الآثار الإقليمية للتغير المناخي، وهذا رغم الحاجة الماسة لمعرفة مدى تأثير هذه الظاهرة على مستقبل المنطقة وعلى ثرواتها ومقدراتها.
الملاحظ أيضا غياب المؤسسات العلمية ومراكز البحوث العربية عن جميع الفعاليات والأنشطة العلمية الدولية المنوطة ببحث ظاهرة التغير المناخي، ويكفي هنا أن نذكر أن جميع الدراسات والتقارير الدولية الصادرة بشأن هذه المسألة لم تتصدر مطبوعاتها للأسف أسم هيئة علمية عربية واحدة، كما لم يقدم أي مركز بحثي عربي أي مساهمة أو جهد يذكر لتقديم ولو رؤية مغايرة بشأنها.
معطيات غائبة بشأن الطوفان المنتظر
ينبغي القول بأن الصورة ليست غاية في القتامة بشأن تداعيات التغير المناخي، فمع التسليم بأن هناك فعلا عددا من التأثيرات والتداعيات السلبية والخطيرة، كما أوضحنا آنفا، هناك أيضا بعض المعطيات والاعتبارات الإيجابية التي قد تضيء المشهد قليلا، نذكر منها هنا تلك المتعلقة بغرق المناطق الساحلية، وطغيان البحر، باعتبارها من أخطر تداعيات التغير المناخي، وأكثرها جسامة:
أولى هذه الاعتبارات أن ارتفاع مستوى البحر بسبب الاحترار العالمي وذوبان الكتل الجليدية هي فرضية مشروطة باستمرار معدلات التلوث الجوي على النحو السائد حاليا ومشروطة أيضا بعدم قدرة المجتمع العالمي على الحد من الغازات والانبعاثات الضارة المحفزة على التغير المناخي وأبرزها ثاني أكسيد الكربون.
وهذا معناه أنه لازال هناك أمل وبادرة أن يتم درء وتجنب ذلك الخطر، ولعل تعاظم وتشديد الجهود الدولية في الفترة الأخيرة، وليونة موقف أميركا، أكبر ملوث في العالم حاليا، تجاه المبادرات والاتفاقيات الهادفة للحد من الانبعاثات الضارة توحي وتزيد من هذا الأمل.
ثانيها أن مستوى سطح البحر أيا كان مقداره، وغرق أجزاء من السواحل أيا كان موقعها، لن يحدث بين يوم وليلة أو فجأة كما يتخيل البعض، بل سيأخذ ذلك بعض الوقت، وبالتالي ستكون هناك فرصة أكيدة لإجلاء وتهجير ساكني وقاطني هذه السواحل، ما يعني اقتصار مشكلة ارتفاع مستوى سطح البحر على الأضرار باقتصاديات هذه المناطق وعلى فقد مساحات شاسعة من الأراضي الساحلية، وهي مع الاعتراف بأنها من الخسائر الفادحة، فالأمر لن ينطوي على غرقنا فجأة كما هو معتقد.
ثالث هذ الاعتبارات أنه مقابل وجود احتمالية لارتفاع مستوى البحر بسبب أنشطة الإنسان الصناعية وغازات الدفيئة المنبعثة منها، هناك أيضا وفي المقابل احتمالية لحدوث تغير طبيعي (انخفاضا أو ارتفاعا) في مستوى البحر.
وهي ظاهرة طبيعية تعرف باسم, (التغيرات الثابتة في مستوى سطح البحر) تطال البحر تلقائيا كل فترة، ما يعني أن الظروف قد تكون رحيمة بنا بعض الشيء، وهذا إذا ما حدث انخفاض طبيعي في مستوى البحر، متزامن مع ذوبان الكتل الجليدية أو قبلها، ما يعني التخفيف من آثار الارتفاع الإجمالي الحادث.
ورابعها أن وضع مخاطر التغير المناخي في الاعتبار والاستعداد لها لا يعني بالضرورة هجر الأراضي الساحلية المنخفضة إلى مواقع داخلية مرتفعة، ولا يعني نثر البحر بحواجز بحرية ضخمة أو مصدات خرسانية باهظة التكلفة، بل يعني وضع خطة محكمة لاستخدام تلك الأراضي في إطار تخطيط إستراتيجي يتفق مع المخاطر المنظورة، ويتفق مع طبيعة هذه الأراضي، بحيث يتم تجنب عدم إقامة منشآت إستراتيجية أو حيوية بها.
العودة إلى الفطرة الأولى
لم يعد هناك شك في حقيقة أن المناخ يتغير من حولنا، كما لم يعد هناك شك في أن العالم يسير بهذا الشكل إلى ظلمات ومجاهل، لا يعلم مداها إلا الله.
مشكلة التغير المناخي ليست إذن بالمشكلة الهامشية أو الهينة، بل هي أخطر ما يواجه المجتمع البشري حاليا، لذا ينبغي علينا جميعا، أفرادا وجماعات دولا وتكتلات، عدم التواني في التعامل معها، وفي بحث كل السبل من أجل وقف تداعياتها المستقبلية.
إن التلكؤ في تنفيذ هذه الخطوة أو الممانعة فيها لن يزيد الأمر إلا تعقيدا ولن يزيد كوكبنا البائس إلا سخونة والتهابا، وبالمثل فإن التوسع في الجدل الدائر بشأن مسؤولية الإنسان والغازات الصناعية فيما يحدث من تغير مناخي، وبالتالي بشأن جدوى الإجراءات المتخذة لعلاجه لن يفيد في شيء، لأن ترشيد استخدامنا للطاقة والكف عن نفث سمومنا وغازاتنا الضارة في متنفسنا المحيط سيبقى في جميع الأحوال فضيلة كبيرة ومعلما من معالم التحضر، التي يفترض أن نتميز به عن بقية المخلوقات الأخرى.
ينبغي إذن على الجميع القيام بالمسؤولية الواجبة عليه تجاه درء هذا الخطر الداهم. والواقع أنه بإمكان كل واحد منا المساهمة في إنقاذ مستقبل الأرض، وفي إنقاذ أولاده وأحفاده من براثن الطوفان القادم، وذلك بأن يزيد من اخضرار تصرفاته وأعماله اليومية، وبأن يعود إلى فطرته الأولي المحبة والمراعية لقدرات النظم البيئية المحيطة، هذا هو الرجاء، أما القضاء فلا نسأل الله سوى اللطف فيه.